يقولُ الإمام الشافعي وغيره من أئمة الحديث -رحمهم الله- عن جهاد النفس: (نفسك إن لم تشغلها بالحقّ، شغلتك بالباطل).
والنفس إن لم تشغلها بما ينفعها شغلتك بما لا ينفعك! هذه هي طبيعتها البشرية، فإن لم تردعها وتصرفها عما قد يؤذيها ويرمي بها في قعر جهنم؛ فهي لن تفعل ذلك من تلقائها، فإنّ من شُغلها: الأمر بالسوء، إن لم تزكّها! وقد قال سُبحانهُ وتعالى على لسان امرأة العزيز: ﴿إِنَّ النَّفسَ لَأَمّارَةٌ بِالسّوءِ﴾؛ لأنها من شأنها كثرة الأمر بالسوء لميلها إلى ما تشتهيه وصعوبة كفها عنه؛ كما جاء في المُختصَر.
وقد روى الإمام أحمد والبيهقي وغيرهم، عن فضالة بن عُبيد، قال: قال رسُولُ اللهِ ﷺ في حجَّةِ الوداع: “والمُجاهِدُ مَن جاهدَ نفسَهُ في طاعةِ الله”. وفي معنى الحديث، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (الْمُجاهِدُ مَن جاهدَ نفسَهُ في ذاتِ اللَّه، فَيُؤمرُ بجهادِها، كما يُؤمَرُ بجهادِ مَن يأمُرُ بالمعاصي ويدعو إليها، وهو إلى جهادِ نفسهِ أحوَجُ؛ فإنَّ هذا فرضُ عينٍ، وذاكَ فرضُ كفايةٍ، وَالصبرُ في هذا من أفضلِ الأعمالِ؛ فإنَّ هذا الْجهاد: حقيقةُ ذلكَ الجهاد؛ فمَن صبرَ عليهِ، صبرَ على ذلك الجهاد. ثُم هذا [يعني: جهاد النفس]: لا يكونُ مَحمُودًا فيهِ إلَّا إذا غلبَ [يعني: إذا غلب هوى نفسه]؛ بخلافِ الأوَّلِ، فإنَّهُ مَن يُقتَل أو يَغلِب: ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾”. وقال أيضًا: “جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولًا).
وقال ابن القيم -رحمه الله- في ذلك: (جهادُ النفس مقدمًا على جهادِ العدوِّ في الخارج، وأصلًا لهُ، فإنه ما لم يُجاهد نفسه أولًا، لتفعلَ ما أُمرَتْ بهِ، وتترُك ما نُهيتْ عنهُ، ويحاربها في اللّٰه، لم يُمكنه جهاد عدوهِ في الخارج، فكيف يُمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوهُ الذي بين جنبيهِ قاهرٌ لهُ، مُتسلِّطٌ عليهِ! لم يُجاهدهُ، ولم يُحارِبهُ في اللَّه؛ بل لا يُمكِنهُ الخرُوجُ إِلى عدوِّهِ، حتّى يُجاهدَ نَفسهُ على الخروج).
وقال ابن رجب -رحمه الله-: (النوع الثاني من الجهاد: جهاد النفس في طاعة الله كما قال النبي ﷺ: «المجاهد من جاهد نفسه في الله»، وقال بعض الصحابة لمن سأله عن الغزو: «ابدأ بنفسك فاغزها، وابدأ بنفسك فجاهدها»، وأعظم مجاهدة النفس على طاعة الله: عمارة بيوته بالذكر والطاعة). وقال أيضًا: (فهذا الجهاد يحتاجُ أيضًا إلى صبر، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه، غلبه، وحصل له النصر والظفر، وملَكَ نفسه، فصار عزيزًا ملكًا، ومن جَزِعَ ولم يَصبر على مجاهدة ذلك، غُلِب وقُهر وأُسر، وصار عبدًا ذليلًا أسيرًا في يدي شيطانه وهواه، كما قيل:
إذا المَرءُ لم يَغلِبْ هواهُ أقامه // بمنْزلةٍ فيها العَزيزُ ذَليلُ).
أما ابن باز -رحمة الله- فيقولُ في ذلك: (مجاهدة النفس من أهم المُهمات، وهو الجهاد في سبيل الله في الحقيقة، وفي الحديث يقول ﷺ: «المجاهد من جاهد نفسه لله»، والله يقول سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، فالمجاهدة للنفس في أداء الواجبات، وترك المحارم، والوقوف عند حدود الله، هذا من أهم الجهاد، ومن أهم الواجبات والفرائض).
وقولهُ تعالى: ﴿وَالَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنينَ﴾؛ أي كما جاء في المُختصَر: (والذين جاهدوا أنفسهم ابتغاء مرضاتنا، لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيم، وإن اللّٰه مع المحسنين بالعون والنصر والهداية). إنّ الله سُبحانه وتعالى عندما يرى صدق عبده وحسن جهاده لنفسه، وإخلاصه النية له وحده ﷻ، طالبًا رضاه، سيُعينه برحمته لا ريب، فوالله “لا يَزالُ كُلّ امرئٍ يُقاتل نفسَه على أن تستقيم؛ حتَّى إذا صدق أقامها اللّٰه لهُ”.
وجهاد النفس ليس بالهيّن ولا السهل؛ بل إنه ليشق على المرءِ كثيرًا. وقد قال في ذلك ابن عثيمين -رحمه الله-: (أما مجاهدة الإنسان نفسه، فإنها من أشق الأشياء، ولا تتم مجاهدة الغير إلا بمجاهدة النفس أولًا، ومجاهدة النفس تكون بأن يجاهد الإنسان نفسه على شيئين، على فعل الطاعات، وعلى ترك المعاصي؛ لأن فعل الطاعات ثقيل على النفس إلا من خففه الله عليه، وترك المعاصي كذلك ثقيل على النفس إلا من خففه الله عليه، فتحتاج النفس إلى مجاهدة لا سيما مع قلة الرغبة في الخير، فإن الإنسان يعاني من نفسه معاناةً شديدة؛ ليحملها على فعل الخير).
كما أنّ لجهادِ النفس مراتب، كما يقولُ مُحمّد بن صالح المنجد: (جهاد النفس أربع مراتب أيضًا، إحداها: أن يُجاهدها على تعلم الدين. الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه. الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله البينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله. الرابعة: أن يُجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالِم لا يستحق أن يسمى ربانيًا حتى يعرف الحق ويعمل به ويُعلّمه، فمن علم وعمل وعلم، فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات).
ويقول في ذلك سُفيان بن عيينة -رحمه اللّٰه- في حلية الأولياء: (ﻛﺎﻥ ﻳُﻘﺎﻝ: اﻟﺠِﻬﺎﺩ ﻋﺸﺮﺓ؛ ﻓﺠﻬﺎﺩ اﻟﻌﺪﻭّ ﻭاﺣﺪ، ﻭﺟﻬﺎﺩﻙ ﻧﻔﺴﻚ ﺗﺴﻌﺔ)!
ومِن كل هذا، نفهم أنّ جهاد النفس عبادة عظيمة جدًا، ويترتب عليها كل خير وإحسان، فمن جاهد نفسه فقد فاز وربح، ومن تبع هواها، فقد خاب وخسر! وليُجاهد المرء نفسه، عليهِ بإشغالها كثيرًا، وأن يُشغلها بالحقِ كي لا تُشغلهُ بالباطِل، فإنه إن أراد إشغالها، فعليه بها، وليضع أمامها واقعًا محتومًا، إما أن تُشغل أو تُشغل، ولا آخر غير ذلك. وليس معنى هذا أن يُحمّلها ما لا طاقة لها به؛ إنما أن يُرغّبها تارة ويُرهّبها تارات، وليفعل ذلك، عليه أن يضع اللّه نصب عينيه، ليتذكّر جنّته فَيسعى، ولا يغفل عن ناره فَينسى، وأن يضعها أمامه لتبقى له تذكرة، أنه إن لم يُشغل نفسه بالطاعة والعبادة، فهذه -النار- لسوف تلفحه ريحًا منها حتمًا، وبذلك، يكون قد وجد لنفسه رادعًا، فلا يغفل عنه.
وإنّ خير ما يُمكن أنْ يُعين المرء على جهاده نفسه، هي القراءة. اقرأ في كتب التزكية لتزكيتها، وفي كتب التنمية لتنميتها، وفي كتب الوعظ لتهذيبها، وفي كتب كثيرة تجعلك مُستغنيًا عن الفراغ، ففي ذلك كل اللذة والراحة. وإنّ المرء ليجد لذة بالقراءةِ والله لا يجدُها في موضعٍ آخر غيرها، إلا أكثر منها بتلاوةِ القرآن وكثرة مُلازمته.
اقرأ، فبالقراءةِ تُشحَذ الهمم، وبها تقوى عزائمنا على أنفسنا، فنُسيطر عليها على ما يجب أن تكون عليه النفس الزكية، وإنّ من حسن فِعال المرءِ أن يُشغِل نفسه فيما قد يعود عليه بالنفع والفائدة، وألا يُهدر وقته فيما لا فائدة منه ولا جدوى.
وإنّي لأتمنّى شديدًا ألّا تتكاسلوا عن القراءة في جِهادكم أنفُسكم، فوالله إنّ بها من النَفع ما يُعين على جهاد النفس الكثير فالكثير، وأنّ بضع دقائق يقضيها المؤمن مُطالعًا لأمور دينه وسُنة نبيه، لخيرٌ له من ملذات الدُنيا بما فيها. إنّ مُجاهدة النفس في طلب العِلم يُعدّ جهادًا في سبيل اللّٰه، وخير جهاد المرء، جهاده لنفسه، فجاهدوا أنفسكم في ذلك، فوالّذي نفْسي بيده، أنَّ هذا هو الخير كُلّه.
وأختم قولي بقول ابن عثيمين -رحمه الله-: (نحنُ الآن في حاجةٍ إلى جهادِ النفس، فالقلوب مريضة، والجوارح مُقصِّرة، والقلوب مُتنافرة، وهذا يحتاجُ إلى جهادٍ قبل كل شيء)، وتذكروا أنّ: “جِهَادُ النَّفسِ مهرُ الجَنَّةِ”.