قال تعالى في محكم تنزيله عن الإلحاد:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَنْ يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾.
لأن خير ما نستفتح به مقالاتنا هو كلام الله، استفتحت بآية من كتاب الله، ذُكر فيها الإلحاد وعاقبته، وأن الله عالم بكل ملحد به ومنحرف عن الدين القويم والفطرة السليمة.
وبعد؛ نرى أن الإلحاد يكثر في عصرنا الذي جمع جاهلية كل العصور، ويبدأ ذلك من نقطة التأويل والتشبيه والتعطيل، وصولًا إلى مرحلة الإنكار، وهو ما يعد من أخطر الأمور التي قد تطرأ على أذهان أطفالنا. لذا؛ يجب تمكين الطفل من العقيدة السليمة من الصغر، وتفهيمه أن تعاملنا مع أسماء الله وصفاته يكون بالتسليم فقط، مع الإيمان بأن ليس كمثله شيء.
وموضوعنا اليوم هو عن سخرية الملحدين منا في استدلالنا بآيات من القرآن في النقاشات مع الملحدين، فهم بطبعهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بالله، فيسخرون منا كيف نستدل من القرآن على أن القرآن صحيح وأن الله موجود، وتلك أغبى سخرية جرت على الإطلاق.
بدايةً، علينا أن نعلم أن النقاش يعتمد على الاستدلال والتحليل، فإن لم يكن هناك دليل فلا وجود للتحليل، وإذا وُجد الدليل وجب التحليل. وهذا يعني أن أي نقاش يحدث بين مسلم وملحد أو أي بشري وآخر، يجب أن يبدأ بتقديم دليل على كلامه، ثم يقدم تحليلًا واقعيًا مفصلًا ومقنعًا عليه.
جاء رجل ملحد إلى مسلم، وجرى نقاش بينهما حول وجود الإله ونكرانه، كما قلنا، فإن النقاش يحتاج إلى دليل وتحليل، طلب المسلم من الملحد أولًا إعطاء دليل منطقي على صحة كلامه، وتحليل مقنع عنه، أول ما يستدل به الملحد هو إيمانه بنظرية تشارلز داروين، الذي أنشأ نظرية التطور وانفجار الكوكب، حيث -كما يزعمون- إننا كنا قردة ثم تطورنا حتى أصبحنا بشرًا. ويبدأ بتحليل أن الله -جل في علاه- غير ملموس ولا يُرى بالعين، ثم يستدل بكلام كبار الملحدين عن أن المخلوقات أُنشئت بدون تدخل إلهي، وينفي السبب عن المسبب، ويقول إن المسبب الأول منذ البداية إلى الآن هو شيءٌ فيزيائي عندما أصيب كوكب الأرض بانفجار أدى إلى خلق كل هذه الأشياء، وغيره.
حين قدم هذا الملحد للمسلم كل هذه الأدلة من كبار ملحديه وحللها بالمنطق كما يزعم؛ فإنه يؤكد أنه مؤمن بنظريات هؤلاء الملحدين، وإلا من أين سيستدل على كلامه؟ إذاً، كل طرف يستدل بما هو معتقد به حتى وإن كان الطرف الآخر لا يؤمن بذلك، وإلا لما كان للنقاش داعٍ أصلاً.
رد المسلم عليه بدلائل من القرآن، وكما نعلم أن القرآن لا يكتفي فقط بالحجج والبراهين الملموسة؛ وإنما لديه إعجاز علمي وتحديات عقلانية ستبوء بالفشل كما حدث مع محاولات كتابة مثل آيات الله، بالإضافة إلى تفصيلات كان الإسلام أول من يعرف بها؛ مثل تكوين الجنين وتفاصيل البيئة الكونية، وغير ذلك من الإعجاز الكوني والعلمي واللغوي والبياني والتشريعي والنفسي والإخبار بأشياء من الغيب.
وبعد كل هذا الاستدلال، قام بتحليل معنى كل إعجاز ودليل، إلا أن الكثير من الملحدين عندما يواجهون هذا الاستدلال أول ردة فعل لهم تكون السخرية من استدلالنا بآيات القرآن على صحة القرآن نفسه ووجود الله؛ ولكنهم غاب عن ذهنهم أنهم كانوا منذ لحظات يستدلون على عدم وجود الله بكلام من أناس اخترعوا تلك النظرية، فكيف يسخرون من استدلالنا وهم استدلوا بنفس الطريقة؟
فكانت هذه أول شيفرة نفككها.
تكلمنا سابقًا عن أن الملحدين يستنكرون وجود الإله لكونه لا يُرى بالعين وغير ملموس، ولكن إذا نظرنا إلى هذا الشيء من زوايا عدة؛ نجد أن هذا تناقض رهيب. على سبيل المثال: الذرة لا ترى بالعين ومع ذلك يؤمنون بوجودها، من المنظور العلمي الذي أثبتته، ويؤمنون بأن الذرة تجتمع مع ذرات أخرى لتتكون من جزئيات فتصبح هذه الجزئية شيئًا ملموسًا، كما يؤمنون بأن لديهم روحًا، وهي غير ملموسة ولا تُرى، ولكنهم يؤمنون بها، أيضًا يؤمنون بالجاذبية، وهي التي لا تُرى بالعين وغير ملموسة، ومع ذلك نؤمن بها لتأثيرها الواضح في الأرض. السؤال هنا: كيف يؤمنون بكل هذه الأشياء وهي غير ملموسة ولا تُرى، ولا يؤمنون بمن هو أعظم من ذلك، بمن خلق كل ذلك؟ كيف يؤمنون بكل هذا ويرفضون الإيمان بما يمكن الاستدلال عليه بالعقل والفطرة؟
فانظر إلى تناقضهم، فهم في حيرة من أمرهم، ويسخرون منا حين نواجههم بذلك، ويأخذون الأمر بسخرية بدلًا من الردود العقلانية. فكانت تلك شيفرة أخرى تم تفكيكها.
وأختم قولي بأن حوارنا معهم لا يعتمد فقط على الاستدلال العلمي والفكري؛ وإنما أيضًا على التعمق في تناقضاتهم الغريبة، فإن العقل والفطرة يرفضان فكرة وجود هذا الكون دون مسبب، وهذا سبب كفيل لكشف ضلالتهم. وأختم كما بدأت بسم الله:
﴿ومَا خَلَقْنَا السّمَاءَ وَالْأَرضَ وَما بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾