أما الاختلاط في الطواف حول الكعبة، فليس هو الأصل كما يتوهم، وكون تلك الدولة لم تُمَكن حلولا لا يدل على الجواز، ولم تكن المرأة تزاحم الرجال عند الطواف، والعجيب أن مصطلح الاختلاط قد ورد في حالتنا هذه.
قال ابن جريج لعطاء: “كيفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ؟ قالَ: لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ، كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَطُوفُ حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ، لا تُخَالِطُهُمْ، فَقالتِ امْرَأَةٌ: انْطَلِقِي نَسْتَلِمْ يا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، قالَتْ: انْطَلِقِي عَنْكِ، وأَبَتْ، يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ باللَّيْلِ، فَيَطُفْنَ مع الرِّجَالِ، ولَكِنَّهُنَّ كُنَّ إذَا دَخَلْنَ البَيْتَ، قُمْنَ حتَّى يَدْخُلْنَ، وأُخْرِجَ الرِّجَالُ”. [البخاري 1618].
وقالت امرأة لعائشة: “يا أم المؤمنين: طفت بالبيت سبعًا، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثًا، فقالت لها عائشة: لا آجرك الله، لا آجرك الله، تدافعين الرجال، ألا كبرت الله ومررت”. [حسن رواه الشافعي في المسند 890].
وعن أم سلمة، قالت: “شكوت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني أشتكي، قال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة. فطفت ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطول وكتاب مسطور”. [البخاري 464، مسلم 1276].
وفعلا قد منع الاختلاط في الطواف بعد ظهوره، عن ابن جريج قال: “أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال”. (البخاري 1618).
وهكذا كان الأمر في أزمنة، قال ابن جبير حاكيا ما شاهده سنة 578هـ ويصف فصل طواف النساء عن الرجال: “وموضع الطواف مفروش بحجارة مبسوطة كأنها الرخام حسنا منها سود وسمر وبيض. وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة”. (رحلة ابن جبير 63).
لذا أنكر كثير من العلماء هذا، قال أشهب المالكي: “ولا ينبغي للقاضي أن يقدم الرجال والنساء مختلطين، ألا ترى النساء في الطواف وفي الصلاة خلف الرجال”. (النوادر والزيادات، 8/35).
وقال الزرقاني المالكي: “قوله (طوفي من وراء الناس)، لأن سنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف”. (شرح الموطأ: 2/466).
قال العلامة التليدي المحدث المغربي: “ابتعاد النساء عن الرجال في الطواف واجب إسلامي كالصلاة، فما هو موجود اليوم من اختلاطهن بالرجال اختلاطًا فظيعًا منكر وجاهلية، لا يقره شرع ولا ذو عقل”. (بداية الوصول: 2/637).
بل قد استحب بعضهم طواف النساء ليلاً، قال القرافي المالكي: “واستحب مالك للمرأة إذا قدمت نهاراً أن تؤخر الطواف إلى الليل”. (الذخيرة: 3/236).
مع العلم أن هذا لا يعتبر اختلاطًا كالمرور في الطريق والسوق ونحوه، فهو عابر غير دائم، والعلماء لا يختلفون أن السنة موضع صفوف الرجال أمام النساء، وأن التباعد هو الأفضل، ولكن يخفف في ذلك عند الزحام في المسجد الحرام”. (التفسير: 651).
وعلى هذا القول لا يصح قياس الاختلاط في المدارس على الطواف، فهو قیاس مع الفارق، فالزمن الطويل ليس كالزمن القصير، ألم تر أن الشارع أباح النظر اليسير إلى المخطوبة والجلوس معها زمناً يسيراً بلا خلوة؟.
وبناء على قياس الاختلاطيين فإنه مادام الجلوس معها زمناً يسيراً جائز، فلا مانع من أن يجلس معها أياماً وليالي وينامون في غرفة واحدة بلا خلوة قياسًا على ما سبق، لأنه لا فرق عند الاختلاطيين بين الزمن اليسير والكثير في الأحكام.
وكذا المرأة تحتجب في الصلاة، فإذا انكشف منها شيء في زمن يسير ثم سترته فإنها لا تبطل صلاتها للعفو عن الزمن اليسير، فبناءً على قياس الاختلاطيين فإنه مادام يجوز لها انكشاف عورتها في الصلاة بزمن يسير فلا مانع إذن أن تنكشف طوال الصلاة قياساً على ذلك، لأنه لا فرق بين الزمن اليسير والكثير في الأحكام عند الاختلاطيين.
وكذا مرور الجنب بالمسجد مرورا يسيرا، {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}. انکشاف العورة في زمن يسير لا يبطل الصلاة والنوم اليسير لا ينقض الوضوء.
ولا شك أن تزاحم النساء مع الرجال بهذا الشكل الذي نراه غير مرضي ولم یكن في عهد النبوة، وكذلك ليس مسوغا للاختلاط في المدارس والجماعات ففرق بينن العابر والدائم.
📖الاختلاط_أدلة التحريم والرد على المبيحين