إن المتأمل بخلق السماوات والأرض وخلق الإنسان وخلق هذا الكون بأكمله؛ يعلم أنه لا بد له من خالق أتقنه وأحكمه ويستحيل أن يكون خلق عشوائية أو عبثاً. قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبتُم أَنَّما خَلَقناكُم عَبَثًا وَأَنَّكُم إِلَينا لا تُرجَعونَ﴾. هذا الكون بجماله وإتقانه يدعونا للتأمل به والتفكر، ليوصلنا لخالق هذا الجمال الله سبحانه الخالق البارئ، من رفع السماء من غير عمد، وبسط لنا الأرض، وفجر لنا منها الأنهار، وألقى فيها الجبال الثقال.
ففي كلِّ شيءٍ له آية
تدلُّ على أنَّه الواحد
كل شواهد هذا الكون تدل عليه وترشدنا إليه، ولهذا حين سئل أعرابي: بما عرفت ربك؟ قال: (الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير). بلى والله، تدل المتأمل فيها على عظمة ربه وقدرته وعلمه وحكمته ولطفه، تدله على أسمائه وصفاته.
إن للكون نظام متقن بديع في صنعه وإحكامه، ركب بصورة معقدة بتفاصيل دقيقة تبهر العقول، لا يمكن اختزالها بأسباب راجعة للصدفة؛ فما وجد صدفة لا يمكن أن يكون متقناً محكماً! لقد شكلت أجزاؤه بمسارات دقيقة، لكل جزء وظيفته الخاصة به، فما من ذرة بهذا الكون إلا وهي خاضعة لنظام دقيق يختل بأي زيادة أو نقصان. هذا الترابط مشاهد في المجرات والكواكب، كيف أنها تدور في حلقات منظمة من غير أن تصطدم ببعضها.
نظرة متأمل بقلب مبصر في هذا الكون وفي الإنسان نفسه؛ تكشف لنا عن مظاهر مذهلة لإتقان الله لهذا الخلق. إذاً؛ فلا بد لهذا الإتقان من فاعل حكيم عليم؛ إذ إن الإحكام والإتقان ليس مجرد فعل؛ بل فعل مخصوص بحالة تركيبية خاصة، وهذا الإحكام يتطلب أن يكون فاعله متصف بصفات كمالية متناسبة مع حال هذا العمل والإتقان؛ كصفة العلم، والقدرة، والحكمة، والإرادة، والمشيئة، والحياة، وهي صفات لله تعالى وحده، قال تعالى: ﴿صُنعَ اللَّهِ الَّذي أَتقَنَ كُلَّ شَيءٍ إِنَّهُ خَبيرٌ بِما تَفعَلونَ﴾.
فإذا ثبت أن الكون متقن ومحكم، وثبت أن الإتقان والإحكام لا بد له من خالق؛ فإن الإنسان العاقل ينتقل مباشرة للحقيقة من غير تردد ولا تشكيك.
يقول الخطابي -رحمه الله-: (أنَّك إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك، واعتبرتها بفكرك، وجدته كالبيت المبنيِّ المعدِّ فيه جميع مايحتاج إليه ساكنه من آلة وعتاد، فالسماء مرفوعة كالسَّقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنُّجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذَّخائر، وضروب النَّبات مهيَّأة للمطاعم والملابس والمشارب، وصنوف الحيوان مسخَّرة للمواكب، مستعملة في المرافق، والإنسان كالمُمَلّك البيت المخول مافيه، وفي هذا كلِّه دلالة واضحة على أنَّ العالم مخلوق بتدبير وتقدير ونظام، وأنَّ له صانعاً حكيماً، تامَّ القدرة بالغ الحكمة).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: (ومن نظر في هذا العالم وتأمل أمره حقَّ التأمل، علم قطعاً أنَّ خالقه أتقنه وأحكمه غاية الإتقان والإحكام).
وجاء ذكر هذا الدَّليل كثيراً في كتاب الله بالأمر بالتَّأمل والتَّفكر، ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿الَّذي خَلَقَ سَبعَ سَماواتٍ طِباقًا ما تَرى في خَلقِ الرَّحمنِ مِن تَفاوُتٍ فَارجِعِ البَصَرَ هَل تَرى مِن فُطورٍ﴾؛ أي الذي خلق سبع سموات طباقاً فسماء فوق سماء من غير أن تتماس، وخلقها في غاية الإتقان، فيا أيها الأنسان ارجع البصر هل ترو من نقص أو اختلال، ثم ارجع البصر فينقلب إليك البصر ذليلاً عاجزاً أن يرى خللاً فهو متقن إتقان يخسأ المشكك ويهدي الحيران.
وقوله: ﴿الَّذي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَفِي الأَرضِ آياتٌ لِلموقِنينَ﴾ ﴿وَفي أَنفُسِكُم أَفَلا تُبصِرونَ﴾؛ أفلا تبصرون يا عباد الله ما جعل الله من آيات وشواهد ركزها في أنفسكم وفي هذا الكون لتدلكم عليه سبحانه؛ فأي رحمة بعدها وأي مهرب للمتشكك من هذا الشواهد التي يراها عيناً؟
يقول الملحد السابق -الذي لم يهتدي لدين الله الحنيف؛ إنما أقر بأن هناك إله فقط- انتوني فلو: (لا شك أن ما كشفه العلم الحديث من معلومات هائلة في مجال قوانين الطبيعة ونشأة الكون، وكذلك نشأة الحياة وتنوع الكائنات الحية قد أمد هذا برهان -دليل الإتقان- بالكثير من الأدلة التي أعانتني كثيراً في الوصول إلى هذا الاستنتاج -يعني الإقرار بأن هناك إله-).
قال قتادة: (من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصيله للعبادة)؛ فسبحان الله العظيم الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه.