الأنمي القديم -وخاصة ما كان من إنتاج: “استديو نيبون”- كان يحكي معاناة الأطفال مع العنف في دور الأيتام، ويصوّر حياة التّشرد والعمالة، والبحث عمّا يسد الرمق من طعام وشراب، وينقل غالبًا مآسي حقبة فرنسية؛ مثل:(سالي، ريمي ‘بنسختيه’، عهد الأصدقاء، البؤساء، وداعًا ماركو) وغيرهم ..
وقد لقيت هذه الأنميات قبولًا واسعًا وانتشارًا، وخاصة في الوطن العربي، ورَسَخت هذه الأنميات في رؤوسنا، وعشنا معها طفولتنا، وكم من باكٍ لحال سالي، وكم من مبغضٍ لسيدة منشن!
وإذا أردنا وصف حياة أحدهم البائسة- نقول له: “الآن أصبح مثل كوزيت!”
فراجت هذه المسلسلات؛ لأن أبطالها كانوا أطفالًا، وخلت من المشاهد الفاضحة، وكانت ذات سبكٍ قصصي، مؤثر، تدغدغ المشاعر؛ وبعضها مستَلهم من قَصصٍ حقيقة مؤلمة؛ مما جعلها مؤثرة، تلعب في العاطفة، يبكي معها الطفل والمتابع، ولكن السؤال المهم: “هل كان نقلها وما تبثُّهُ من مُدخلاتٍ مفيدًا ؟!”
من الجوانب غير البريئة لهذا الطرح: تركيزه علىٰ قيمة المال؛ فمعظم مآسي أولئك الأطفال- كانت بسبب الفقر، وأرادوا التركيز بكل خاتمة، ونهاية “سعيدة”، وحلٍّ للمعاناة- أن يكتشف البطل أنه ابن عائلة ثرية، أو يجد أسرة غنية تتبناه، أو تتزوج الفتاة المسكينة أميرًا أو رجل أعمال؛ ويُنْتَشَلُوا بهذا من حياة الفقر والمعاناة!
فتكون هذه السمة الغالبة علىٰ النهايات، ويرسّخ في نفوس الأطفال الحياة الطبقية؛ التي من المفترض أن القصة تحاربها!!
ويلاحظ أنها كثيرًا ما تدعو لقيم؛ مثل الأمانة، والوفاء، وحسن الاخلاق؛ ولكن لا يُربط في ذهن المتابع أن عكس هذه الأمور هي مشاكل تلك المجتمعات، إنما يُركز علىٰ الجانب المادي وحسب!
وكذلك النقل التفصيلي للحياة الطبقية؛ سواء من وجهة نظر عالَم الأثرياء أو الفقراء، هذا الطرح -نفسيًا- لا يُفيد عقلية المُتابع، بل يعمل علىٰ زرع أفكارٍ ملوثة ومغلوطة في نفوسهم عن قيمة الفرد؛ فيتوّلد إما إحساس بالنقص، أو السُّخط علىٰ الأقدار، ويُصاب المتابع بالإكتئاب بسبب ما يشاهده من ظلم “وهمي”، فيمتلأ قلبه بالحزن من خيالات كاتب ومخرج أخرجا آفات من مجتمعات لا ننتمي إليها، ولا ينتمون إلينا، ويُتفاعل معها ذلك التفاعل الوجداني العجيب في عالم من الوهم والخيال!
ويُبغّض إلىٰ النفوس الفقر ويُحبب الغنىٰ، ويُعلىٰ من شأنه؛ فيُرىٰ وكأنه حلٌّ للمآسي!
وما الفقر والغنىٰ في ديننا إلا ابتلاء وأرزاق؛ يُرزق كل شخص ما يكون صالحًا لحاله وآخرته، وما يُمتحن به ليُرىٰ عملُه؛ فلا الغنىٰ ولا الفقر بعينهما تقييمٌ للأفراد!
قال الله تبارك وتعالىٰ:
﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾
[الأنبياء: ٣٥].
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره:
“أَيْ: نَخْتَبِرُكُمْ بِالْمَصَائِبِ تَارَةً، وَبِالنِّعَمِ أُخْرَىٰ؛ لِنَنْظُرَ مَنْ يَشْكُرُ وَمَنْ يَكْفُرُ، وَمَنْ يَصْبِرُ وَمَنْ يَقْنَطُ؛ كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَنَبْلُوكُمْ﴾، يَقُولُ: نَبْتَلِيكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وَالْغِنَىٰ وَالْفَقْرِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْهُدَىٰ وَالضَّلَالِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ أَيْ: فَنُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ”.
وقال النبي ﷺ:
«إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ الله إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ».1
- [جامع الترمذي – باب ما جاء في الصبر علىٰ الابتلاء – حديث ٢٣٩٦]. ↩︎