الكحل…جمال وبركة

|

في كل مرة تمسك فيها امرأة مسلمة بمكحلتها، أو ينظر رجل مسلم إلى مرآته ويتذكر سنة نبوية شريفة، فإن هناك قصة طويلة تُروى في سكون اللحظة. الكحل؛ ذلك المسحوق الأسود البسيط، تجميل وإرث حضاري، ودواء عيون، وسُنّة نبوية، وشاهد على تقاطع الجمال بالروح.

منذ آلاف السنين، اكتحل الناس شرقا وغربا. عرفته الهند باسم الكاجال، وفارس بـالسورمة، لكن العرب كانت لهم فيه خصوصية تُروى.

لم تكن أعين العرب وحدها التي تألقت به؛ العبرانيون، الفينيقيون، الآشوريون، الرومان، الإغريق، وحتى الصينيون… كلهم عرفوا الكحل. لكنه في الجزيرة العربية حظي بمكانة أعمق، لأنه اقترن بحكمة الطب، وروح الدين، ونظرة الجمال.

في الجاهلية، كان الكحل رفيقا للرجال والنساء. وعندما بزغ نور الإسلام، تحوّل من زينة إلى سنّة نعتز بها.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن خير أكحالكم الإثمد، يجلو البصر وينبت الشعر”، فكان الرجال يكتحلون به اقتداء، والنساء تتزين به التماسا للجمال والحسن.

كان الكحل زينة المرأة المسلمة، بل سلاحها السري لإبراز العينين، تظليل الحواجب، وتكثيف الرموش.

وفي ظلال الكحل تكمن نظرة الكبرياء، وحكاية الحياء، وخيط من الحسن لا يحد.

وعندما كانت العروس تزف، كان من أول ما يعمل لها: تزيين عينيها بالكحل.

“البلانة” أو “الماشطة” تعرف أن السواد حول العين لا يزيدها غموضا فقط، بل قوة، وثقة، وتألقا.

ولم يكن الكحل زينة فحسب، بل دواء!
فالعرب القدامى آمنوا بقدرته على شفاء العيون، وتخفيف الصداع، وحماية البصر، وقد توسعت كتب الطب الإسلامي في ذلك: يصفونه بأنه يقوي الأعصاب، ويجلو العين، ويداوي القروح، ويُنقّي الأوساخ.

ولأنه بهذه المنفعة، سُمي طبيب العيون في العصور الإسلامية بـ”الكحال”. وكان الكحل الإثمد هو الأجود، يجلب من أصفهان أو الحجاز أو المغرب، ويُعد بعناية فائقة.

لكن ما هو “الإثمد”؟ هل هو الأنتيمون؟ أم الغالينا؟ هنا دخل الجدل العلمي.

فبينما كان البعض يرى أنه حجر الأنتيمون اللامع، بدأت الدراسات الحديثة تشير إلى أن الكحل القديم، خاصة المصري، كان مصنوعًا من الغالينا= كبريتيد الرصاص.

المصريون القدماء استخدموا عدة معادن رصاصية في مكاحلهم: الغالينا، السيروسيت، المرداسنج، الانجليزيت، وغيرها.

وقد وجدت قارورات بها بقايا كحل في مواقع أندلسية تعود للقرنين 11 و12 الميلادي، أكدت التحاليل أنها مكوّنة من كبريتيد الرصاص.

حتى اليوم، ما زال الكحل التقليدي في العالم العربي يحتوي على نسب عالية من الرصاص تصل إلى 53% في بعض العينات، بجانب الأنتيمون والكافور والمنثول.

لكن طريقة صنعه كانت فنًا بحد ذاتها.
الإثمد يُغسل، يُجفف، يُطحن، يُنخل، ثم يُخلط ببضع قطرات من زيت أو دهن. وتُضاف إليه مواد لتعزيز فوائده أو شدة سواده: الشاذنج، النوشادر، الفلفل، القرنفل، الزعفران، وحتى أجزاء من الحيوانات كالآيل والقرن المحرق.

وكان هناك أنواع أخرى من الكحل: كحل “الدلال” المصنوع من الفحم أو السخام، وكحل الصبر الأصفر، وكحل العنزورت الفارسي، وكحل اللبان المعطر.

في النهاية يبقى الكحل إرثا ثقافيا، وعلاجا طبيا، وسنة نبوية، وجمالا يُطلّ من عيون أمهاتنا وجداتنا، من قرون مضت وحتى اليوم.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة