قد أَنهَكَنا “الوَهنُ” حتّى أورَدَنا مَهلِكَنا؛ فاصنعوا لنا جيلًا ينهضُ بأمّتنا.
في معركة القادسيّة التي وقعت في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بين جيش المسلمين والفرس؛ بعث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، أربعة عشر رجلًا من وجوه المسلمين؛ بأمرٍ من عمر رضي الله عنه إلى كسرى يدعونه إلى الله قبل الوقعة.
فكان جواب يزدجرد: (إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفوناكم، لا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجَهد دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكًا يرفق بكم).
من الجدير بالذّكر أنّ العرب كانوا يعيشون في البادية حياة بدائية جدًا وشاقّة، مقارنة بالازدهار الحضاري والاقتصادي التي كانت تحظى به إمبراطوريات الفرس والروم في زمانهم، لذا؛ كان الأخيرون ينظرون إليهم نظرة استحقار ودونيّة، وهذا جليّ في جواب كسرى لقدومهم.
فقام المغيرة بن زرارة رضي الله عنه ليردّ على كسرى قائلًا: (أيها الملك; إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأما ما ذكرتَ من سوء الحال، فما كان أسوأ حالًا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع; كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات ونرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضًا، وأن يُغيرَ بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية; كراهية أن تأكل من طعامه، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلًا معروفًا؛ نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته خير بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو نفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر، فلم يجب أحد أول من ترب كان له، وكان الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا فلم يقل شيئًا إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله، فقال لنا: إنّ ربكم يقول: أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء، وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء وإلي يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم، فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي أنجيكم بها بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام. فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق. وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحَكَم بينكم، فمن قُتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه. فاختر إن شئت الجزية، وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تُسلِم فتنجي نفسك).
تأملّوا العزّة التي تقطر من كلامه رضي الله عنه، وهو يتحدث إلى كسرى عظيم فارس! فالبرغم من قلّة المسلمين آنذاك مقارنةً بحالنا اليوم؛ إلا أنّهم لم يداهنوا رضوان الله عليهم في قول كلمة الحق؛ بل كانوا أعزّ ما يكون بالصدع فيها، وقولها كما هي واضحة نقيّة، دون أي زيادات، ولا نقصان، ولا تنميق، أو تلاعُبٍ بالألفاظ، فكانوا لا يخافون في الله لومة لائم.
أما نحن؛ فإنّنا اليوم بالمليارات، ولكنّنا لم نلتمس فائدة من هذا العدد الغفير والكمّ الهائل من المسلمين، لَم تساهم هذه الكثرة برفع ظلم فضلًا عن نصر أمّة، فما الذي نحتاجه؟ ما الذي نفتقد لوجوده في رجالنا ونسائنا اليوم مقارنةً بحال الصّحابة، إذ وبالرّغم من قلّتهم يومئذٍ مقارنةً بنا اليوم؛ إلا أنهم فتحوا فتوحات طالت الروم والفرس؛ في الشّام واليمن، والعراق ومصر وغيرها؟
عن ثوبان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها. فقال قائلٌ : ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ. فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ”.
هل عرفنا الآن الفارق بيننا وبينهم؟ هل علمنا ما الذي نفتقد وجوده فينا؛ والذي جعل الصحابة يقفون أمام أعتى وأقوى رؤساء الكفر في زمانهم؛ كالأسود الأشاوس، يقولون الحق بعزّة وقوّة لا تنثني أو تندحر؛ مترجمينَ كلماتهم لأفعال سُطِّرت في سجلّ الأبطال؟
الفارق ببساطة: حبّ الدّنيا وكراهية الموت.
-الروحاء
لقد تربّى الصحابة في مدرسة النبوة؛ على التطّلع للآخرة والعمل لها، فنصبوا أنظارهم إليها، وأبصروا حقيقة الدنيا وزهدوا فيها فلم يغرِهم بريقها، وتاقت قلوبهم لما عند الرحمن فآثروا الباقية على الفانية؛ فاجتمع لهم عندها أمر الدّنيا والآخرة.
أمَا وقد وضعنا أيدينا على الجرح، أمَا وقد أبصرنا وفهمنا سبب الدّاء، فقد حان وقت العلاج: “وعلاج الوهن يكون بإقامة القلوب على حب الله وحبّ الآخرة والموت وهي طريقة الجهاد في سبيل الله، ولا يزال الجهاد أعظم ما تحيا به القلوب توحيدا واتباعا لمن سبق” [د. ليلى حمدان].
في غزوة مؤتة قام عبد الله بن رواحة خطيبًا في المسلمين محرِّضًا إيّاهم على الجهاد؛ فقال رضي الله عنه: (والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون الشهادة، ما نقاتل الناس بعدد، ولا عدة، ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور، وإما شهادة).
إمّا نصر وإما شهادة. تالله لن يستقيم لنا حال؛ حتى تصبح هذه الجملة شعارنا ونهجنا الذي نُنشأ عليه أبناءنا من صغرهم، حتى يشبّوا على رسوخها في قلوبهم؛ حقيقةً لا تردّدَ فيها.
وهَذَا حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ، لَمَّا طُعِنَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، أخذ الدَّمِ هَكَذَا فَنَضَحَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: (فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ).
وَهَذَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ لما انْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ يَعْنِي أَصْحَابَهُ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ)، يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: (يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ)؛ فَوَجَدُوا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ.
“ومن أراد لهذه الأمة أن تنبعث من جديد فليعظّم حبّ الله وعبادة الجهاد في قلوب أبنائها”، ولينشأهم على سِيَر السّابقون الأوّلون قراءة ومدارسة وتحبيبًا؛ ليسيروا على خطاهم ويقتدوا بآثارهم.