إنّ الإيمان ليس عبارةً عن كتلةٍ واحدةٍ ثابتةٍ، متى رسخَ عبدٌ وارتقى لدرجةٍ فيه يعني ذلك أنّه آمنٌ من نقصٍ وانهِيار؛ بل هو يزيدُ وينقُص، يقوَى في مواطنَ وقد يضعُف في أخرى. وإنّما في هذه الانتقالاتِ تكمُن الفارقَة في تعاملِ كلٍّ منّا مع هذه الحقيقة، ويتجلّى بوضوحٍ صِدقَ صاحبها؛ إمّا بمجاهدةِ نفسٍ وسعيٍ لإصلاحٍ وتزكية، أو بركونٍ وتجاهلٍ لجراحٍ تنزِف.
ومن مواطنِ ذلك؛ أنْ يلحظَ العبد من قلبه تعلُّقًا بأحدهم ولو طفيفًا، يجعلهُ يطرُقُ حنايا فِكرهِ على أوقاتٍ مُتعدِّدةٍ خلال يَومِه، ويركّز شيئًا من طاقتهِ لتحصيلِ محبّتهِ ورضاه، وينشغلُ به عن الأنفعِ والأجدَرِ لهُ.
وفي هذا التعلّقِ؛ شقاءَ العبدِ وتعاستهِ وضيقَ صدرهِ وانعدامَ سكينتِه، ووضعًا للأشياء في غير محلِّها، وصرفًا لما لا يجوز إلا لله عزّ وجلّ لغيرهِ من: الرّجاء أو الإرضاء أو الخوف أو الاستعانة أو التوكّل أو المحبّة أو السّعي… وهذا يُنافي كمالَ التّوحيد وموجِبٌ للخُذلان، قال صلى الله عليه وسلم: “مَن تَعَلَّقَ شيئًا وُكِلَ إليهِ” رواه أحمد.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أنّ من مُفسِدات القلب: تعلُّقَه بغير الله تبارك وتعالى، ثمّ قال: (وهذا أعظم مفسداته على الإطلاق، فليس عليه أضرّ من ذلك، ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه، فإنه إذا تعلّق بغير الله وكله الله إلى ما تعلّق به، وخذله من جهة ما تعلّق به، وفاته تحصيل مقصودهِ من الله عز وجل بتعلّقه بغيره، والتفاته إلى سواه، فلا على نصيبه من الله تعالى حصل، ولا إلى ما أمَّله ممن تعلّق به وصل).
ثمّ على من أحسّ ذلكَ من قلبهِ ولو بثَنيةٍ من ثنَياتِه؛ تذكُّر أنّ من يرجوهُ إنّما هو كائنٌ فقيرٌ ضعيفٌ مثلَه لا يملِكُ لهُ نفعًا ولا ضرًّا، واستشعرَ ما لو كان المُرتجى رضوانَهُ ومحبّته؛ هو خالقُ الأرضِ ومن عليها، وفاطرِ السّماءِ بمن فيها، والمنزّهِ عن النّقائصِ كلّها، والمتّصِف بالكمالِ المُطلق، والذي تسبّحُ له السّمواتُ السّبعُ والأرض ومن فيهنَّ، والذي إذا أراد شيئًا قال له كُن فَيكون، والذي أحاطَ بكلِّ شيء علمًا، لا تخفى عليهِ خافيةٌ ولا تَغيبُ عن علمِه ذرّة.
وهذه طريقة عمليّة نافعة بعونِ الله تعالى؛ في خلاصِ القلب من التعلُّق بالمخلوقات، إذ كلّما شعرَ بقلبهِ يميلُ إلى أحدهم؛ أعادَ توجيهَ بوصَلتهِ واهتمامِهِ إلى ربِّ ذلك المخلوق، وحدّثَ نفسَهُ شوقَ الوصولِ لمحبّتهِ والفوزَ بقُربهِ ومعيّتهِ سبحانه.. فيستَغني بالتّألُّه لله تعالى وحدَهُ عن كلِّ ما سِواه مُحِقِّقًا لهُ العبوديّةَ التامّةَ مُخلِصًا. وكفَى بالله وليًّا وكفَى بالله نصيرًا وكفَى بالله أنيسًا وملاذًا ومُرتجًى.
اللهم إنّا نسألُكَ محبّتكَ والأُنسَ بكَ وتعلُّقَ قلوبَنا بكَ وحدَكَ والشَّوقَ للقائكَ والإقبالَ عليكَ والإعراضَ عمّا سواكَ.