البصر نعمةٌ عظيمةٌ -كسائِرِ نِعَمِهِ سُبحَانه- مَنَّ الله بها علينَا، ينبغي لنا شُكرُها آنَاءَ الليلِ وأطرافَ النَّهار، والدُّعاء بالثَّباتِ والجَلد والتيسيرِ لمَن فقدَ حَبيبَتاهُ.
وَمِن شُكرِ النِّعْمَةِ: صرفُها إلى مَا يُرضِي اللهَ. ولكنَّ الآيةَ -مع الأسفِ- قُلِبَت عِند كَثيرٍ مِنَّا، فبِتنا نعصِي اللهَ سُبحانه بنِعَمِه، بالجَوارح التِي وَهَبَنا إيَّاهَا، والفِكرِ السَّليمِ الذِي كَان نُورًا في عَتمةِ الجَهلِ والضَّلالِ، وَنِبراسًا يَهدِي -سوِيَّ النيَّةِ- إلى خَيرِ الأعمالِ، والبَصر… النَّظر؛ فبِتنا نُبصِرُ بِلا بَصِيرَة!
إنَّ الأشياءَ التي اعتدْنا عليهَا في الصِّغَر، رُسِمَت عميقًا في طَبعِنا، طبعًا وعادةً أصبَحَت، والموَفَّقُ من استطاعَ مَحوَ السَّيِّئِ مِن ذاكَ الرَّسم، ومن الرسم الخبيثِ الذي رُبَّما انتقَل لكثيرٍ مِنَّا فِي الطُّفولة -بحُكم شَخصيةِ الطِّفلِ الاستكشَافِيَّة-: إطلاقُ البَصَر.
وأنبِّهُ: كثيرٌ من الصغار اعتادوا حِفظ بصرهم، والأدبَ منذ ليونة عودهم؛ لكن منهم من كان ذا أدبٍ لكنّ بصره طَلِق.
كون ذلك صار عادةً عندَ الكَثير، فقد غطى تكرارها مساوئها العَديدة العظيمةَ بالغة الفُحش، والله المستعان. فطفلٌ كَبُرَ على النظرِ للصغير والكبير، الرجل والمرأة، سيغيبُ عن ذهنه أن النظر لغَير محارِمِهِ من النِّساءِ لا يَحِلُّ له، وعن ذِهنِها إن كانت طفلةً أن النظرَ للرِّجال لا ينبغي لها.
جاء الأمر بِغضِّ البصر في القُرآن الكَرِيم، وسُئل الإمام أحمد بن حنبل: (لا ينبغي للمرأة أن تنظر إلى الرجل، كما أن الرجل لا ينبغي له أن ينظر إلى المرأة)؟ قال أحمد: (نعم).
مفاسد إطلاق البصر
وإن مفاسد إطلاق البصر كثيرةٌ عَظيمَةٌ لا تَخفَى على عَاقل، ومِن ذلك: أنها مما يُهيِّج الشَّهوَة، ويُثِيرُها، خاصةً لدى الرِّجَال، وللنِّساء في أحايينَ عَديدة. وإطلاقهُ من مُسَبِّبَاتِ قَسوةِ القَلب نسأل الله العافِية، فكم من نظرةٍ تحولت لنظراتٍ، نظرات شَهوانية، ومُصابةٍ بدَاء العِشقِ والعِياذ باللهِ! وكم مِن نظرٍ سَبَّبَ الفُضُول المَذمومَ، والتدخُّلَ فِي شُؤون النَّاس! وكم من نظرةٍ سببت سُوء فَهم، وأزعجت هَشًّا أو أحزنته! وكم من نظرةٍ جرَّت أخواتها، وجرَّت الفِكرَ والعَقل، مسهدةً وشاغلةً إيَّاه بما لا يرضي ولا يفيد!
ومن النظر الذي يقسي القلبَ أيضًا: تتبعُ المشاهِير ومتابعةُ حَيواتِهم. فهذا من أشدِّ ما يَسوَدُّ القلبُ منه، ويشغل صاحبه بأشياء غير مفيدةٍ البَتة، ويُثيرُ فضوله، ويُجري على لِسانِهِ كلامًا لن يُحبَّ أن يُبصرَهُ في صَحيفَتِهِ قَطعًا.
يتابع يتابع يتابع ولا ينتهي! كيف ينتهي وحلقاتُ الفلسفةِ والمشاكلِ السخيفة وما إلى ذلك لا تنتهي فيه؟ يضع نفسهُ في دائرةٍ مغلقة، وعليه أن ينتشلها منها قبل أن يسود قلبه أكثر!
البصرُ من أدواتِ الإدخال، من الحواس التي تُرسِل ما تستقبل لمراكز المعالجة في الدماغ، فأبصِر ما تريد أن يعالجه دماغك ويعتاد عليه، ويتصرف ويفكر ويعطي ردات فعل طِبقًا له، فإن أنت أبصرت خير الكلام، وخير الناس، وخير الأشياء، أزهَرَ دِماغك بهاءً، والعكس بعكسه؛ فداوِم على تفقُّد ما تبصر.
منافع غض البصر
من منافعِ غضِّ البَصرِ التي يطول طويلًا بسطُها: أنها تحفظ القُلوبَ والمشاعِر، وتسنِدُ البُيوت، خاصةً للشَّباب الذين هُم فِي مرحلةٍ شهوتُهُم فيها عَالية. فإن غضُّوا بصرهم؛ حفظوا مشاعرهم وقلوبهم لمن سيكون حلالًا عليهم، ولم تغرهم الأشكال والمظاهر فيرفَعُوا سقف معاييرِهِم لدرجة أن يعزفوا عن الزواج إن لم يجدوا شريكًا نادِر الجمال. وإن أطلقوه؛ أضاعوا مشاعِرَهُم واستنزفوها على باطِلٍ وسُوء، وصعّبوا عليهم الزواج وعسروه، وجرعوا أنفسهم كأسَ الندامة بيد الشهوةِ التي صَبَّته.
حفظ البصر في المواقع
وكما يُحفظ البصر في الواقع؛ فيحفظ في المواقع أيضًا، وهذا أمر هامٌّ جدًّا، وعلى ذوي النُّهى أن يحتاطوا ويأخذوا حِذرَهُم! غض البصر في الواقع أسهل، لأن من تراه يراك في الغالب، وذو الحياء لن يطلق بصره متجرِّدًا منه؛ لكنَّ هَذه المواقع وفّرت جميع أنواع الصوَر والمقاطعِ المرئية لكلا الجنسين، وأتاحتها للجميع، تراهم ولا يرونك، فمُحِي الحَياء تدريجيًّا؛ فاستسهلوا وقللوا من أمر إطلاق النظر، وتحججوا بواهي الحجج، فاندثر حياؤهم على المواقع وجالت أنظارهم بلا رَادِع، ومتى اندثر الحياء على الشاشات؛ اندَثَر على الواقع!
تأمل الرجل المرأة المسلعة على المواقع؛ فكَرِهَ امرأته وأصبحت قبيحةً في نظره، وتأملت هي الرجل ذا الوجه الإعلاميّ؛ فأصبح زوجها عديم الجاذبية نسبةً لها، وخرب بيتهما.
فالله الله فيما تضعون عليه أبصاركم، اتقوا الله واحفظوا أنفسكم وقلوبكم وبيوتكم. ومتى ما غضضت بصرك؛ فأبشر بحلاوة الطاعة، وحلاوة القُربِ من الله، وحب الله!
وإن لم يكن من تنظر له يراك، أفلا يراك ربك؟ ألا يراك العَزيز وأنت تعصيه بما أنعمَ عليك بدلًا من شُكره؟
أذاقنا الله وإياكم حلاوة الإيمان وحفظ قلوب أبناء هذه الأُمَّة.