يقول الرافعي -رحمه الله-: (والمرأة في الإسلام، يُسعى إليها ولا تَسعى هي البتّة، مرغوبةٌ لا راغبة، يُخطى لها ألف ميل، ولا تتزحزح هي حتى تأتيها طالبًا)، ولقد عُرف الرافعي بأسلوبهِ الرفيع، فكان -رحمه الله- بحرًا من البيان، وروضة من البلاغة، لا يغرف منه إلا من خاض غِمار لغتنا العربية، وتذوّق حلاوة ألفاظها، واستوعب كنوزها.
ولأنّ لكل مقامٍ مقال، أقول: إنّ للكلمةِ لصدًى، وللمعنى لضياء، وما هذه الجملة التي ورّثنيٰها الرافعي إلا قبسٌ من نورِ الفطرةِ السويّة، وإشراقةٌ من حكمةِ الشريعةِ الغرّاء. وفي قولهِ ذاك؛ تتجلّى صورة ناصعة لمكانةِ المرأة في ديننا الحنيف، مكانةٌ تُعلي من شأنها، وتصونُ كرامتها، وتضعها في موضعِ التوقير والتقدير.
فالمرأة في ديننا ليست مجرد جسدٍ يُبتغى، بل روحٌ تُصان، ونفسٌ تُكرّم. وهذا المبدأ، ليس تقيّيدًا لحريتها، بل هو درعٌ واقٍ يحميها من كلِّ ابتذالٍ أو استغلال. فكم من الحضارات والأممِ التي سلبت المرأة عفافها، وجعلتها سلعةً رخيصةً في سوقِ الرغباتِ المتأجّجة، فإذا بها تفقدُ قيمتها، وتُهدرُ كرامتها، وتُصبحُ أُلعوبةً في أيدي العابثين!
حتى جاء الإسلام، ليُعيد الأمور إلى نصابها، وليضع كلَّ شيءٍ في موضعهِ الصحيح. فجعل الرجل هو الطالب، والساعي، والباذل، وهو الذي يُسفِرُ الخطى، ويقطعُ المسافات، ليبلغ مرادهُ في الحلالِ والطهر. فالمرأة في هذا الإطار، ليست تلك التي تلهثُ وراء الرغبات العابرة، أو تُعرِض نفسها لمن هبَّ ودبَّ، بل هي لؤلؤةٌ مكنونةٌ في صدفِ العفة، لا يُدركها إلا من كان أهلًا لها، ومن سعى إليها بصدقٍ وجدٍّ، وقدّر مكانتها العظيمة.
وقول الرافعي ذاك؛ يرسم لنا أبهى صورة للمرأةِ العزيزة، والتي تُصان مهابتها، وتُحفظ هيبتها. فما هي إلا كنزٌ ثمين، لا يُنال إلا بالطلب الصادق والسعي الحثيث. وفي تتمةٍ لهذه الحكمة السامية، جاء الجاحظ ليقول قولًا بليغًا في ذلك هو الآخر: (والمرأة أيضًا أرفع حالًا من الرَجُل في أمور. منها: أنها التي تُخطَب وتُراد، وتُعشَق وتُطلَب، وهي التي تُفدى وتُحمى).
لقد طابت هذه الكلمات وعذُبت وهي تُجلي لنا وجهًا آخر من وجوهِ الحكمة التي تتجلّى في نظرةِ الإسلام للمرأة. وهذه الفروق، ليست تفضيلًا بجوهرِ الخِلقة أو تفوّقًا في الإنسانية، فكلاهما آدميٌّ، وكلاهما خليفةٌ في الأرض، بل هي تفاضلٌ في الأدوار، وتمايزٌ في المهام، يصبُّ في خدمةِ الفطرة السليمة، وبناء المجتمع المتوازن.
فكون المرأة هي التي تُخطَب وتُراد، هو إشارةٌ صريحةٌ إلى مركزيتها في بناءِ الأسرة، وهي عماد هذه اللبنة الأساسية. لا تُساق سوقًا، ولا تُفرَض فرضًا؛ بل هي المحور الذي تدورُ حوله رغبة الرجل الصادقة في الاستقرارِ والعفة. وهذا الوضع يمنحُها القدرة على الاختيار، ويجعلها في موقعِ التمكين، بعيدًا عن أيِّ ضغطٍ أو إكراه.
أما كونها تُعشَق وتُطلَب، فذلك إقرارٌ بمكانتِها العاطفية والوجدانية السامية. فهي مصدر السكينة والجمال، ومنبع الحبّ الذي يُثمر مودةً ورحمة. والرجلُ؛ هو الذي يبذل العاطفة، ويسعى لنيلِ القرب، وهي تتلقى وتمنح، في توازنٍ فطريٍّ يضمن استمرارية العلاقة الزوجية على أُسسٍ قويةٍ من المودة والاحترام المتبادل.
ويبلغ هذا التكريم ذروته في قولِهم: “وهي التي تُفدى وتُحمى”، فمنذُ الأزل، كان دور الرجل هو الحماية والقيام على شؤونِ المرأة، ورعايتها، والدفاع عنها. وهذا الفداء وهذه الحماية لا تعني ضعفها، بل تعني أنها كنزٌ ثمينٌ يستحقُّ التضحية من أجله. فهي الجوهرة التي تُصان في خِزانةٍ منيعة، لا خوفًا عليها من ضعفٍ فيها، بل تقديرًا لقيمتها، وصونًا لحيائها. فكم من المواقف التاريخية التي سطّر فيها الرجال أروع صور الفداء والتضحية من أجلِ نسائهم، دفاعًا عن عرضٍ، أو حماية لكيان.
وما أجملهُ جمع قولهم: (هي التي تُخطَب وتُراد، تُعشَق وتُطلَب، وهي التي تُفدى وتُحمى، يُسعى إليها ولا تَسعى هي البتّة، مرغوبةٌ لا راغبة، يُخطى لها ألف ميل…)، أما هي، فملِكة عزيزة في مملكتِها. هي المخطوبة، وهي المطلوبة، وهي المرغوبة، ويُبذل في سبيلها الغالي والنفيس. وليست بعاقلةٍ من تُرخِص نفسها خاطبةً وطالبةً وراغبة! إنما تفعل ذلك من لا ترى لنفسها قيمة، كبضاعةٍ مُزجاة!
أيا أُخيّتي، قد كرّمكِ هذا الدين وأحسن إكرامكِ، وأحسن إليكِ، فجعل الرجل هو من يسعى للوصول إليكِ، فقرّي عينًا، وطيبي نفسًا، واحفظي قلبكِ لمن يطرُق باب أبيكِ حلالًا، رجلًا شريفًا صادقًا يجعلكِ ملكة قلبه وسيدة بيته… فلا تُنقصي من قيمتكِ وقدركِ بأن تركضي خلف من لا يستحقكِ، بل ويسترخص قيمتكِ!
فهل ترين بعد هذا التكريم من تكريم؟ وهل بعد هذا الصون من صون؟ إنّما هذه نظرة عميقة، ورؤية ثاقبة، تُعيد للمرأةِ مكانتها الحقيقية التي أرادها لها خالقها، مكانة اللؤلؤة المصونة، لا السلعة المبتذلة!
ثم إنّ هذا لا يُقيّد المرأة، بل يُعلي من شأنها، حيث يُعزّز من قيمة الزواج، ويُرسّخ مفهوم العفة والطهارة في المجتمع. فالمرأة، حين تُحيطها هالةُ التوقير، تصبح أقوى وأعزّ، وتؤدّي رسالتها السامية في بناءِ الأجيال وصناعة المستقبل بفاعليةٍ أكبر. وهذه الفضائل مجتمعة لا تُظهِر المرأة كائنًا ضعيفًا، بل هي قيمةٌ مضاعفةٌ تستدعي التقدير والسعي والحماية. فهي ركنُ المجتمع الركين، وعمادُ الأسرة المتين، ومربيةُ الأجيال، وصانعةُ الرجال.
فمتى فهم كلٌّ من الرجلِ والمرأةِ دوره، وتعاونا على أساسِ التقوى والفطرة السليمة؛ استقام أمر الأسرة والمجتمع، وعمَّ الخير، وارتفعتْ راياتُ الفضيلة. فالمرأة هي المخطوبةُ المرجوّةُ التي تُكرَّم وتُعزُ. فشتّانَ بين من تَسعى لِتُبتغى، ومن يُسعى إليها لتُصان وتُكرَّم!










