يقول نبيّنا محمد ﷺ: «إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ، وما لا يُعْطِي علَى ما سِواهُ». وفي بيت حسنٍ لأحد الشعراء يسبر حال النفوس البشرية:
"لو سار ألفُ مُدَجَّجٍ في حاجةٍ
لم يَقْضِها إلا الذي يتَرفَّقُ"
فالحزم له مواضعٌ لا تُخفى على كل ذي حكمة، وللرفق مواضعٌ، فإن استبدلتَ ثانيهما بالأول لا تلومَن إلا نفسك.
أحياناً، عليك أن تخلع المنطق والعقل، وتجري مع القلب في جداوله، وتسري مع النسمات. فالرّفق رداءٌ من حرير، حين يرتدي الناس ثوباً قشيباً، نُسِج من تعاملاتهم الجافة.
أن تترفّق يعني أن:
- تحتوي أخطاء طفلك غير المبالغ فيها، والتي لا تكون متعدية على حقوق غيره. خصيصىً إن كان أمام أترابه، فلا تُوسعه ضرباً بالألفاظ حيناً، وبيدك الكبيرة أحايين… فاذكُر أنك مثله قد كنت ذات يوم طِفلاً!
- أن ترفق بمريض رقّ عظمه، ووهنت قوته، فلا تطلب منه فوق وسعه كأن يحجِل وهو بالكاد يمشي الهوينى، أو أن تنكر ألمه بفظاظة، فالثانية أشد وقعاً على النفوس.
- أن تتمثل قول رسول الله ﷺ: «ليس منا من لم يوقّر كبيرنا» لا أن تردده وحسب كحكمةٍ يعجبك مبناها. أما التطبيق، فتنفض كفّيك ناظِراً لغيرك: يا ليتهم يفقهون… وكأنك في غنىً عن التقويم والتهذيب!
- أن ترفَق برِقة زوجتك واعتزازها بك، فلا تكسرها أمام من أقصى مرادهم رؤيتها مصابة بسهام منك، ومُنى أرواحهم رؤية لآلئ عينها المخبوءة في قاع نفسها، منثورة على قارعة الطين.
- أن تختار أحسن الألفاظ لمعانيك، ولا تعلّق سوء ألفاظك على شماعة عفويّتك، بل أمرٌ أعظم من ذلك. تأمل قول خاتم الأنبياء محمد ﷺ: «اذهب اضحكهما مثلما أبكيتهما…». إنها لهجرة، وإنه لفصل تاريخيّ عظيم، لكن النبيّ ﷺ أبى إلا أن يُرسّخ الأخلاق والرّفق… كما وطّد دعائم الإيمان.
إننا في زمان، يحسب الواحد منا أنّهُ إن صلى فرضه، وصام رمضان، فقد تفضّل علينا وعلى ربه! ولكن -حاشا- بأن نقوم مقام نعمه الوافرة -سبحانه- حتى وإن تصلبّت أقدامنا صلاةً وقياماً.
إن رسولنا -صلوات ربي عليه-، جاء ليتمّم مكارم الأخلاق.
يقول الله -عز وجلّ-: ﴿وإنَّك لعلى خُلقٍ عظيم﴾
هذا توكيد من الله العليم الحكيم.
فلا كمال للرجولة الحقّة إلا حين تكون المسافة بينك وبين أخلاق النبي ﷺ ضئيلة، فتكون ليّناً عند اللين، تغرفُ من حلمك، وترسم لوحتك بألوان بهيّة، لا لوناً واحداً من الخُلُق القاتم تمسكه وتتعصب له!
فما اتّقاد جمرة العينين عند الضعفاء بطولةٌ يعز مثلها، ولا زمجرتك أمام من لا يقوى على صدّك شجاعة؛ بل يُعرف الرجل عند معاملة من لا يرجو منهم ثواباً ولا يخشاهم لضعفٍ أو قلة حيلة. أولئك في حصى القوم، كالدرة للتاج.
أما في ميادين الجِهاد، حين يقف المنتفشون بفراغ من دواخلهم على قربة من الضياغم، يظهر الفرق جلياً بين الحديد والذهب… فلا طيب خُلُقٍ ورفق حازوا، ولا مع الرجال في المعارك ربحوا!
فاكحل عينك بالذكاء، وجمّل روحك بحلو الشمائل، وزيّن عقلك بسرعة البديهة… ويا سَعد من كان خُلُقه أشبه بالنبي الأكرمِ ﷺ.
قال رسول الله ﷺ: (إِنَّ في الجنةِ غُرَفاً يُرَى ظَاهِرُها من باطِنِها، وباطِنُها من ظَاهِرِها. فقال أبو مالِكٍ الأَشْعَرِيُّ: «لِمَنْ هيَ يا رسولَ اللهِ؟» قال ﷺ: «لِمَنْ أَطَابَ الكَلامَ، وأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وباتَ قائِماً والناسُ نِيامٌ»).
وحُسْن خُلُقك هذا إن قَبله الله، تذكرةٌ لك إلى تلك الغرف البلوريّة الصافية، وهيَ ليست كالبلور الذي نعرفه؛ لأنها الجنة… ما لا عينٌ رأت.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة.