في يوم شديد على أبطالنا في زمن الفتن ، وأثناء الحرب، بعدما كانت لهم الغلبة، تبدلت الأحوال، وانكشف الأبطال، وحدث هرج ومرج وانتشرت الشائعات في ساحة الحرب كما تنتشر النار في الهشيم ، أن “القائد قد قُتل”.
سُقِط في يد الرجال، وشعروا باليأس؛ فجلسوا وقد غزاهم شعور الضياع والحزن والهم والغم .
حتى تردد ذاك الصوت الصادح الصادع المهيب، صوت جهوري يحمل كل معاني الصدق والإخلاص والإباء، من شدته هربت فلول اليأس من النفوس، وانقشعت غمامة الحزن وتبددت غيوم الوهن، فقد صدح قائلا:
“ما تفعلون بالحياة من بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه”.
ثم انطلق كالسهم بين جموع الأعداء، متقدمًا الصفوف، منغمسًا بين أنياب الموت لا يهابه ولا يخشاه، بل يطلبه هو قبل أن يصله!
قاتل صاحب الصوت حتى استشهد وكان في جسده حوالي ثمانين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم، فرضي الله عن سيدنا أنس بن النضر وأرضاه.
أذاك موقف عابر؟ مجرد موقف نقرأه فننبهر ثم نطوي الصفحة وقد نسيناه؟ أم هذا دليل وعلامة صدق لا بد أن يتصف بها كل حامل هم وغاية؟!
كلما سمعت عمن مات ثابتًا على ثغره الذي سخره الله عز وجل له، أسمع صدى تلك الكلمات مزلزلًا مدويًّا (قوموا فموتوا على ما مات عليه) فالظرف لا يحتمل اليأس والشتات والحزن والنحيب، بل هذا وقت العمل.
فأمتنا مدفونة تحت أطنان من ركام الزيف والتجهيل والتثبيط، تحتاج لرجولة صادقة يحدوها دين وعلم؛ لإزالة ذاك الركام الجاثم على صدرها.
تحتاج من ينتشلها من مستنقع الوحل الذي علقت فيه ولا تستطيع منه فرارا.
النصر قادم قادم لا شك في ذلك، بل لعله اقترب أكثر مما نتخيل، فخاسر ومغبون من لم يكن له سهمٌ فيه، من لم يرابط على ثغرٍ يقف عليه ويسده بما استطاع.
فمن يئس من إيجاد ثغر، فلن يضيق عنه ثغر التوبة وإصلاح النفس والسعي لإصلاح رعيته، فذاك باب من أعظم أبواب الجهاد والنصر إن صدق قاصده.
وأخيرا، إياك ثم إياك ووهم العمل والنصرة، إياك وتوهم السعي. فالنحيب والولولة والشجب والصراخ قد تكون مجرد تفريغ طاقة وتنفيس غضب يتخيل الإنسان بعده أنه أدى الذي عليه، فيفقد طاقته فيما لا يفيد، ويقعد عن عمله وجهاده، وقد كان عليه ادخار تلك الطاقة لتكون وقودًا له تدفعه للعمل الحقيقي والسعي الجاد.
الفتن ستشتد، والأمور ستزيد صعوبة وتعقيدا، ولعل لزوم ثغر بصدق وإخلاص، يكون هو سفينة النجاة في وسط تلاطم أمواج الفتن والشدائد.
فالدعاء الدعاء، والثبات الثبات.