بين شُهداء مؤتة وغزّة

|

للإيمان الصادق قدرة على تحويل الضعف إلى قوة، والخوف إلى شجاعة، واليأس إلى أمل. فهو وقود الروح الذي لا ينضب، ومنبع الإصرار الذي لا يفتر، ويصنع من الأفراد أبطالًا لا تعرف رايتهم السقوط، ومن أروع الأمثلة على هذه العزيمة المتأصلة وقوة الإيمان بالله ما تجلّى في معركة مؤتة، والتي تعدّ من أشرس المواجهات في التاريخ الإسلامي.

ففي هذه المعركة الحاسمة ضد الروم، اختار النبي ﷺ ثلاثة من خيرة الصحابة -رضي الله عنهم- لقيادة الجيش.

البداية كانت مع زيد بن حارثة -رضي الله عنه-، والذي حمل اللواء بثبات وشجاعة منقطعة النظير، لكنه ما لبث أن استشهد في ميدان الشرف. لم تسقط الراية، بل التقطها فورًا جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-، والذي أظهر بسالة عظيمة قبل أن ينضم هو الآخر إلى ركب الشهداء.

ومع استشهاده، لم تترنح الراية، بل تسلّمها عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه-، والذي قاتل حتى الرمق الأخير واستشهد أيضًا، فحمل الراية بعده خالد بن الوليد -سيف الله المسلول-.قادة يتساقطون واحدًا تلو الآخر، لكن الراية ظلت مرفوعة، لم تسقط أبدًا. وقد خلّد النبي ﷺ هذا المشهد بقولهِ: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب -وعيناه تذرفان-، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم».هذا الحديث الشريف لا يصف فقط شجاعة القادة، بل يؤكد أن الإيمان القوي بالله كان هو المحرك والدافع وراء هذا الثبات العظيم.

وهذا المشهد، ليس حكرًا على الماضي فحسب؛ فالتاريخ اليوم يُعيد نفسه، والثابتون موجودون في كل زمان ومكان. فها نحن نشهد اليوم مشاهد تذكرنا بمعركة مؤتة، حيث تتجسد روح التضحية والعزيمة في أبناء هذه الأمة.فَتتكرّرُ مشاهد الأبطال والمُجاهدين الذين يُجاهِدون في سبيل الله، دفاعًا عن دينهِ ﷻ ومقدّسات هذه الأُمّة. وما أن يسقط أحدهم شهيدًا -ونحسبهم كذلك -بإذن الله-، ولا نزكي على الله أحدًا-، حتى يهبّ مجاهدٌ آخر ليحمل راية الجهاد عنه، مُكملًا المهمة بكل ثبات وإصرار، مؤكدًا أن الطريق لا ينقطع، وأن المبادئ لا تموت بسقوط الأشخاص.

فلا يُقاس الإنسان بالزمان الذي يعيش فيه، بل بصلابة قلبه وصدق إيمانه.وهذا المشاهد، تذكرنا بمعركة مؤتة، حيث جُسّد المعنى الحقيقي لـ”الراية التي لا تسقط”. حرصًا على ألا يسكت صوت الحق، وأن تظل رايتهُ خفاقةً عاليةً في وجوه الأعداء، وأن يظل نداؤها يصدح في الآفاق، تأكيدًا على أنّ الإيمان ليس مجرد كلمة تُقال، بل هو حياة تُعاش، ومبادئ يُقاتل من أجلها، وأرواح تُبذل في سبيله ﷻ.

قال سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشتَرى مِنَ المُؤمِنينَ أَنفُسَهُم وَأَموالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيَقتُلونَ وَيُقتَلونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّوراةِ وَالإِنجيلِ وَالقُرآنِ وَمَن أَوفى بِعَهدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاستَبشِروا بِبَيعِكُمُ الَّذي بايَعتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظيمُ﴾.

كل عصر يحمل دروسه، وكل واقع يحتاج إلى من يمتلك قوة الإيمان والشجاعة واليقين بالله.

والإيمان، هو الرباط الذي يشد القلوب على الحق، وهو العزيمة التي لا تعرف الاستسلام. وما دام الإيمان متجذرًا في القلوب، وما دامت العزائم متقدة، فإن رايات الحق لن تسقط أبدًا، وسيظل صوت الحق يصدح عاليًا، شاهدًا على أن قوة الله غالبة، وأن النصر حليف الصادقين.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة