سلسلة الرد على الشبهات | معضلة الشر (٤)

|

كثر الحديث في هذا الزمان عن “معضلة الشر”، لا سيما مع تصاعد الطرح الإلحادي المتأثر بالفكر الغربي المادي وهي شبهة قديمة حديثة، أُثيرت لتشكيك الناس في حكمة الله وعدله، بل في وجوده سبحانه جل في علاه، بحجة أن وجود الشر والمعاناة لا يتوافق مع الإيمان بإله كلي الرحمة وكلي القدرة ولقد تناولها علماء الإسلام بالتحليل الدقيق، وردوا عليها بالبيان الساطع والعقل النير، والنقل الصادق من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ

معضلة الشر تدور في فلك الاعتراض التالي:«إذا كان الله كلي القدرة والعلم والرحمة سبحانه، فلماذا يوجد الشر؟ إن كان لا يريد رفعه، فهو غير رحيم، وإن لم يستطع رفعه، فهو غير قادر، وإن لم يعلم به، فهو غير عليم!» وهذا تساؤل فاسد المبنى، مغلوط المنطق، لأن الله جل جلاله كامل في أسمائه وصفاته، ووجود الشر في الكون لا ينفي رحمته وعدله؛ بل هو مظهر من مظاهر حكمته وابتلائه وتربيته لعباده.

وقد بيّن الإمام ابن القيم_ رحمه الله_ في كتابه “شفاء العليل” أن الله لم يخلق الشر لذاته، وإنما لحكم عظيمة، منها: ١ظهور آثار أسمائه الحسنى كالمنتقم والجبار، وتمايز الناس، وامتحانهم، وتربية العباد على الصبر والتسليم، ورفع الدرجات. ٢ ويؤكد أن الشر ليس محضًا، بل مآلاته كثيرًا ما تقود إلى الخير، وأن ما يُظن شرًا قد يكون في حقيقته خيرًا عظيمًا. ٣_ وقد ساق_ رحمه الله_ أمثلة كخلق إبليس، الذي ترتبت عليه آثار عظيمة (التوبة، والجهاد، والتوحيد، والدعاء، والتوكل)

ويؤكد الشيخ مطلق الجاسم في محاضراته القيمة أن معضلة الشر لا تُفهم إلا في ضوء الإيمان بالغيب واليوم الآخر، وأن حذف الشر من العالم يلغي حرية الإنسان واختياره، ويجعل التكليف بلا معنى فالشر ضرورة أخلاقية لتمييز الخير، ولتحقيق الامتحان، وظهور الصبر والإيمان ويشير إلى أن العالم الذي نعيش فيه مخلوق ناقص بطبيعته، ومحدود لا يرقى للكمال، والكمال المطلق لا يكون إلا في دار القرارة، وفي هذا السياق يؤكدأن الشر في الإسلام جزء من نظام الخير الكلي، وأن الحياة الدنيا ليست دار جزاء، بل دار ابتلاء وتمحيص، وأن الحرية الحقيقية تقتضي وجود خيار الشر، وأن غياب المعاناة لا يحقق إنسانية الإنسان، بل يسلبه أعظم خصائصه( الحرية+ والاختيار).

وينقسم الشر إلى أنواع، منها:

  • الشر الطبيعي كالكوارث
  • والشر الأخلاقي كأفعال الظلم والقتل ٣ والشر النفسي كالحزن والقلق
  • والشر الابتلائي الذي يحمل في طياته حكمة أو عاقبة حميدة.

ومن أعظم ما يكشف حكمة وجود الشر؛ النصوص القرآنية والنبوية التي أبانت الغاية من خلق الإنسان والابتلاء.

قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ…}،
وقال: {نبلوهم بالشر والخير فتنة}
وقال: {عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم}
وقال: {ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}
وقال: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملًا}

وفي السنة النبوية: “عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير…”
و”أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل الأمثل”
و”ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب… إلا كفر الله بها خطاياه”
و”إذا أحب الله عبدًا ابتلاه”
و”ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة”

وقد أورد العلماء أقوالًا رائعة في هذا الباب، منها قول ابن تيمية رحمه الله :”الشر ليس من صفات الله، بل من أفعال عباده” وقال الغزالي: “الشر جزء من نظام الخير الكوني”،
وقال العز بن عبد السلام: “الشر وسيلة لإظهار العدل الإلهي” وقال الطحاوي: “نؤمن بالقضاء خيره وشره”.

وحتى غير المسلمين، أنصف بعضهم الطرح الإسلامي، كـ Montgomery Watt الذي قال: “الإسلام يقدّم تصورًا متوازنًا للشر”
وKaren Armstrong التي قالت: “العقيدة الإسلامية عميقة في تحليلها للابتلاء”
وRichard Swinburne الذي اعتبر أن الفلاسفة المسلمين أوائل من بنوا تبريرًا عقلانيًا للشر.

أما القضاء والقدر، فهو أحد أركان الإيمان الستة. قال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، وقال: {وكان أمر الله قدرًا مقدورًا}، وقال: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله}، وقال: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا}، وقال: {إن كل شيء خلقناه بقدر}.

وفي السُّنة: “آمنتُ بالقدر خيره وشره”، و”كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة”، و”واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك”، و”لو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله حتى تؤمن بالقدر”، و”أول ما خلق الله القلم قال له اكتب…”.

ومن أقوال العلماء: قال ابن القيم: «الإيمان بالقدر يُورث الطمأنينة»، وقال النووي: «الرضا بالقدر من تمام الإيمان»، وقال ابن حجر: «القدر سرّ الله فلا تفتِّشه بعقلك»، وقال الطبري: «الإيمان بالقدر شرط في صحة العقيدة»، وقال ابن عبد البر: «من جحد القدر خرج من جماعة المسلمين».

ومن عظيم رحمة الله أن الدعاء والصدقة يردّان القدر، قال النبي ﷺ: «لا يردّ القدر إلا الدعاء»، وقال ﷺ: «الصدقة تُطفئ البلاء»، وقال ﷺ: «إن الدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل».

معضلة الشر بعيون أمريكية ويهودية ونصرانية:

١- النظرة النصرانية (المسيحية):

ترى الكنيسة أن الشر دخل العالم بخطيئة آدم عليه السلام، وأن الله سمح به من أجل الفداء عبر صلب المسيح.
لكن هذا الطرح يثير سؤالًا منطقيًا عميقًا: لماذا يُصلب الإله – بزعمهم – ليكفّر عن خطأ إنسان؟ أليس في ذلك ظلم أعظم من أصل المعصية؟
ثم ما الغاية من دين يُفترض أنه جاء لهداية الناس وردعهم عن الشر، بينما أتباعه يعتقدون أن جميع خطاياهم قد غُفرت بصلب المسيح، فيُستباح الحرام ويفشو الشر باسم الفداء؟ وهكذا تنقلب الفكرة من معالجة الشر إلى تكريسه واستمراره.

٢- النظرة اليهودية:

أما اليهود، ففي التلمود يُذكر أن الشر ضرورة للتمحيص، لكنهم ينظرون إلى الخير والشر من زاوية قومية محضة، إذ يعتقدون أن كل شيء في الوجود خُلق من أجلهم، وأن جميع البشر دونهم مرتبة، بل خدم لهم.
هذه الرؤية تجعل من الأنانية القومية والتعصب العِرقي أساسًا لفهمهم للخير والشر، وهنا تتجلى صورة الشر بأوضح صُوَرها: ظلم الآخرين واستباحة حقوقهم باعتبارهم أقل شأنًا.

٣- النظرة الأمريكية (العقلانية الغربية الحديثة):

أما الفكر الغربي الحديث، وخصوصًا في أمريكا، فقد انقسمت مدارسه؛ فهناك من الفلاسفة الوجوديين والملحدين من يرى أن وجود الشر يُسقط وجود الإله كليًّا، لأن الإله – في نظرهم – لو كان موجودًا لما سمح بالشر (حاشاه سبحانه).
بينما تحاول مدارس أخرى – خصوصًا بعض المجتمعات المسيحية – تقديم أجوبة عقلانية جزئية، لكنها لا تستند إلى نصوص محكمة أو رؤية متكاملة للغيب، بل تعتمد على الفلسفة الإنسانية النسبية التي لا تقيم وزنًا للوحي ولا تعتبره مرجعًا.

٤- المفارقة الكبرى (كيف يروننا):

هذه الرؤى المتباينة انعكست على موقفهم من المسلمين، فاليهود والنصارى يرون أنفسهم هم الخير المطلق، بينما المسلمون – في نظرهم – هم الشر المطلق الذي يجب أن يُباد.
يظهر ذلك بوضوح في عقيدة “هرمجدون” عند البروتستانت: معركة كبرى في فلسطين آخر الزمان، يجتمع فيها اليهود والنصارى ضد “قوى الشر”، وغالبًا ما يُصوَّر المسلمون أنهم العدو الذي سيقضي عليه المسيح – بزعمهم.
لذلك نرى الدعم القوي من الحزب الصليبي (الإنجيليين) الذين يؤمنون بعودة المسيح، ولن يأتي المسيح حتى يجمع اليهود في مكان واحد.
فدعم المحور الصليبي غالبًا ليس حبًّا في اليهود، بل لأجل مصالح دينية، وكيف يحبون من قتل إلههم؟ (حاشاه الله).

بينما الإسلام يرى أن الشر ليس في عِرق أو قومية، بل في معصية الله، يقول تعالى:
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: ١٣].
فالخير في طاعة الله والعدل، والشر في الكفر والظلم، وهذا ميزان موضوعي عادل بخلاف الميزان الغربي المشوَّه.
قال تعالى:

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)}
[الممتحنة: ٨–٩].
أي إن الله لا ينهى المسلمين عن البر والعدل مع غير المحاربين من أهل الكتاب أو الكفار، بل ينهى عن تولّي المحاربين لهم.

٥- النموذج الواقعي (عقيدة هرمجدون وأحداث آخر الزمان):

النصارى ينتظرون عودة المسيح ليقتل “الأشرار”، والمسلمون – في نظرهم – على رأس هؤلاء كما بينّا آنفًا.
أما المسلمون فيؤمنون أن المسيح عليه السلام سينزل فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحكم بالعدل، ويُبيد الظلم، ويَحكم بشريعة محمد ﷺ.
أي أن المسلمين ينتظرون المسيح ليقضي على الشر الحقيقي وهو الكفر والفساد، بينما الغرب ينتظره ليقضي على المسلمين أنفسهم باعتبارهم الشر!
وهذه مفارقة صارخة تكشف الخلل في تصورهم.

٦- التاريخ شاهد على موازينهم: تاريخ الغرب يفضح تناقضهم:

في الحروب الصليبية (1096–1291م) ارتكبوا مجازر في القدس قُتل فيها أكثر من 70 ألفًا.

في محاكم التفتيش بالأندلس عُذّب المسلمون وأُحرِقوا وشُرّدوا.

في الاستعمار الحديث نهبت أوروبا ثروات الشعوب وأبادت قبائل بأكملها.
الحملات الصليبية الثمان على المسلمين، واحتلال أراضي المسلمين وقتلهم ونهب ثرواتهم.
في الحربين العالميتين قُتل نحو 80 مليون إنسان.
في فلسطين منذ 1948م حتى اليوم، مجازر واحتلال وتشريد.
في العراق وأفغانستان، ملايين القتلى والجرحى والمهجّرين.
حرب البوسنة والهرسك وقتل الآلاف…
حرب الفيتنام.
حرب كوريا.

فمن الشرير حقًا؟ أهو من يدعو للتوحيد والعدل وضبط الناس؟  أم من يقتل الشعوب ويبرر الظلم باسم الحضارة والتمدن؟
علينا أن نعي بأن النظرة اليهودية–النصرانية–الأمريكية للشر مشوّهة، إما لأنها مادية قومية ضيقة، أو لاهوتية متناقضة، أو عقلانية ملحدة. أما الإسلام فميزانه واضح: الخير كل الخير في طاعة الله، والشر كل الشر في معصيته. قال تعالى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46).
فحقوق الإنسان لن تطبق الأعلى مصالحهم، لم تشرع لترفع الظلم عنك أخي بل لتبرر قتلك وتشويه دينك بحجة التطور والحرية والحضارة.

فالنظرة الإسلامية وحدها تقدّم التفسير المتماسك للشر، وتضع معيارًا عادلًا يزن به البشر جميعًا بلا محاباة.
فيا من تعجبت من البلاء، اعلم أنه ما نزل بك إلا وقد سبقك علم الله به، وأنه محض لطف من حكيم عليم. لا تتهم ربك في قضائه، ولا تيأس من رحمته، فإن البلاء طريق الصفاء، والمحن باب المحنَّة والتمكين.
اللهم إنا نسألك فهمًا في حكمك، ورضًا بقضائك، ويقينًا بقدرك، وصبرًا على بلائك، وحمدًا لك في السراء والضراء. اللهم اجعلنا ممن إذا أُعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، اللهم اجعلنا من أهل الرضا والتسليم، وثبتنا على الإيمان حتى نلقاك وأنت راض عنا.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة