مَسْرَى السَّالِكِين الْخُلَّص!

|

سلام اللَّه عليك بنيّ، أمَّا بعدُ،
لقَد بَلغنِي أَمرُك، فجِئتكَ كَعهدِكَ بي مبشراً، حاملاً لك قبساً من نور. فاحمل عصى تِرحالِك على قلبك يا وَلدي، وتهيَّأ!

اعلم بنيّ، أنه قد يُؤَخَّر عنك ما ترجوه من ربِّك، من تَمكينٍ في أمر الدِّين؛ من اعْتلاءٍ للمَنابر، وإلقاءٍ للخُطَب، وجهادٍ بسِنانِ القلم، ودَحضٍ للباطل، وإعلاء لكلمة الحق، مع عظيم سَعيِك!  فتَجدُكَ تُعزِّي نفسك كل يوم وليلة، أن مُنِعَ عنك ما منع من الخَزائِن، وأنت الجَهول بخَفايَا نفسك، القَاصِرِ على فهم ما يدَبِّره الخَبير لك من المَواهِب والعَطَايا، وأيُّ عَطِيَّة أجَلُّ من صلاح النية وسلامة القلب من رياء وسمعة؟

وغالب الأمر يا ولدي، أنه قد مر عليك، قول محمد رسول الله ﷺ: «ألا وإنَّ في الجسد مُضغَة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب». فأَبشِر بنيّ، فعسى ربُّك أن يؤتِيَك خيرًا مما أُخِّر عنك؛ فيعَلِّمك الحِلمَ قبل العِلم، ويَمدُّكَ بالصَّبر قبل الظَّفر، ويُودِعُ في نفسكَ المعاني الكِبَار، فيجَمِّل خَفِيَّك قبل أن يجَمِّلَ جَلِيَّك، فتُصنَع على عينه التي لا تنام، صِنعَة يحِبُّها الله ورسولُه.
فتُوهَبَ روحاً مكتَنِزَةً بالأسرار، وتَفِيض آنِيَة قلبك تِبَاعاً بالأنوار، فترى ببَصِيرَتِك ما لم تدرِكه قط قبل هذا، فإذا بك إن سكَتَّ خَطَبتَ، وإن نَطَقتَ التَهَبتَ، وتَشِف كالزجاج إن أنت كَتبتَ. فلا يخفى على سامعك أو قارئك ما في نفسك خافية، فالسِّر عندك علانية.

بنَيّ، جاء في كتاب (الأُصُولُ الثَّلاَثَة وأدِلَّتُهَا) على لسان مؤلفه محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: (فإذا قيل لك، من ربُّك؟ فقل: ربِّي اللَّه الذي ربَّاني، وربَّى جميع العالمين بنِعمه). اللَّه! وإنَّي ما زلتُ أجد عذوبَة هذا اللَّفظ في قلبي، مذ عرفته، ولا ينقطع عني وَارِدُه أبدا. فهل عرفت ربَّك؟ ربُّك اللَّه، الذي يربِّيك بالمنعِ قبل المَنح، ويسقي بذرَةَ فؤادك بالدَّمع، حتى تُؤتِي أكلها بعد حين، بإذن الله.

ربُّكَ اللَّه، الذي أَصبَغَ عليكَ نعمه ظاهرة وباطنة، ربُّك اللَّه، الذي نفخ فيك من روحه، وأَلهَم نفسكَ تقوَاها، فلا يَنبِض فيك نبضٌ إلاَّ باسم الله، ربُّكَ اللَّه، الذي نظر إلى قلبك، فرَآه خَائِفاً وَجِلاً، يستَعيذ به من كبرٍ ورياء، واجفاً كلَّما جاءته الذكرَى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُون﴾[الجاثية: 23] فارتَضَى قلبكَ سبحَانَه، فطَهَّرَه تَطهِيرا، قبل أن يمَكِّنَك ويؤتِيَكَ بُغيَتَك، فلاَ تُعَكَّرَ صُفُوُّ رِسَالتِك! وأذكر في هذا قول ابن الجوزي -رحمه الله-: (العمل صورة والإخلاص روح، إذا لم تخلص، فلا تتعب)، فأَبشِر بنيّ وتأمَّل فضل الله عليك، عسى أن تكون من الفئة النَّاجيَّة، فلا تُكَبّ على وجهك في النار، والعياذ بالله!

فقد جاء في هذا، عن محمد بن عبد الله ﷺ، أنه قال: «إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه (…) ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرَّفه نعمه، فعرَفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليُقال: عالم، وقرأت القرآن ليُقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار».

فيَا بنيّ، آمل أنَّك وجدت في نَجوَايَ هذه شفاء لما في صَدرِك، وهدًى ورحمةً لقَلبك المتَبَتِّل بحبِّ اللَّه ورَسولِه، والسَّلام.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة