- إن المتأمل لقصة الخليل إبراهيم – عليه السلام – مع قومه كثيرا ما تشده آية
﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ﴾ [سورة الأنبياء: 69].
فيتبادر إلى الذهن سؤال، لو لم يسمع ويقرأ هذه الآية هل كان ليصدق أن النار يمكن أن تكون بردا؟ وليس بردا قارسًا ضارًّا أو ممرضًا… لا، بل سلامًا، هل كان ليتبادر إلى ذهنك أن هذا هو المخرج الذي يخرج به الله خليله – عليه السلام – من كيد قومه وبطشهم؟
لا والله، لا تخطر على البال قطّ، أظن أن أقصى ما قد تصل إليه التوقعات أن يسوق له غيمة فينزل عليه المطر ويخمد لهيب النار…
لكنه الله، الذي قال عن نفسه ﴿وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فقدرته لا تحدها حدود، ولا تحصيها عقول، ولا تزنها موازيين، لم يطفئها، لم يخمدها، بل غير صفتها وطبعها وأصلها، قلب الموازين فلم يصب خليله الحبيب – عليه السلام – لا حر، ولا اختناق، ولا احتراق، بل بردًا وسلامًا..
وإن كنت ترى أنه زمن النبوة وهذا نبي، بل وخليله – سبحانه جل في علاه – فتأمل آية يقرأها جميعنا، وربما لا نلقي لها بالًا ، عندما تُشعل النار وتُوقدها من ذلك الشجر الأخضر اللين، الشجر الذي يلطف الجو وينعشه، ويمدنا – من بعد فضل الله سبحانه – بالهواء لنتنفسه، يصبح نارا نوقدها، يخنقنا دخانها، ويحرقنا لهيبها، فهو القائل سبحانه
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ﴾ [سورة يس: 80]،
فآيات ربي كثيرة عديدة، موجودة حولنا وأمامنا… بل آياته تجري فينا…
فقط تحتاج إلى عقلٍ حاضرٍ، وقلبٍ خاشعٍ وبصرٍ نافذٍ يرى ويتدبر خلف المشهد قدرة الله، سبحانه.
فهذا ربنا، رب السماوات والأرض وما بينهما، ربنا ورب كل شيء ولا يعجزه شيء، هذا ربنا.
سبحانك ربي ما قدرناك حق قدرك! ما قدرناك حق قدرك
- إن من أعظم ما تحويه سورة البقرة آية الكرسي، والتي يقول عنها العلماء إنها أعظم آية في القرآن وهي
قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [سورة البقرة: ٢٥٥].
وفي زحمة المعاني العظام التي تحويها الآية، وأسمائه وصفاته سبحانه جل في علاه، ليتأمل الواحد منا قوله”وسع كرسيه السماوات والأرض”، الله! سبحان الله العظيم!
ارفع رأسك وتدبر.. دعك من الأرض.. تأمل السماء فقط.. ليس السماوات السبع! ولا أريدك أن تتأمل السماء كلها، فقط ما هو فوقك واستحضر قلبك، وأسكت الأصوات من حولك وتدبر..
سبحانك ربي، سبحانك ربي، الجزء الذي أستطيع أن أشاهده جزء صغير جدا أمام السماء، ولا يكاد يذكر أمام السماوات السبع، وهو لا شيء بالنسبة للسماوات والأرض، فيا أيها العبد، إن هذا الرب وسع كرسيه السماوات والأرض.. هذا الرب الذي تعصيه.. هذا الرب التي تنتهك حرماته وتستبيح الحرام في خلواته.. هذا الرب الذي تأتمر بما نهاك عنه وتنتهي عما أمرك به.. تسخط من قضاءه وتتعدى على أحكامه.. وسع كرسيه السماوات والأرض، كيف نحن أمام هذا الكرسي؟ وكيف نحن أمام ربي هذا الكرسي؟
ونأتيه فردا فردا يعاتبنا ويسألنا ويحاسبنا {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}
[سورة مريم: ٩٥].
ما العذر الذي أعددته؟
العبد بضعفه وهوانه وتقصيره وذنوبه يقف أمام ربه جل في علاه يسأله.. فماذا أعدالعبد لهذا اليوم؟
وما يزيدنا تفكرا وتدبرا لهذا المعنى وهذا الموقف الذي لا ريب فيه قادم، استحضارنا لطلب موسى – عليه السلام – من ربه حيث قال الله عز وجل
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأعراف: ١٤٣]
حدث ما حدث وهو لم يرَ ربه سبحانه.. الجبل القوي الشامخ الذي يثبت قشرة الأرض وتوازنها ويظهر هذا في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [سورة النبأ: 6-7]. أصبح مسحوقا مهشما ليس ركاما، بل رمادًا يتطاير، هذا الخلق العظيم سحق بعد أن تجلى له شيء من نور ربنا سبحانه وتعالى.. فكيف بنا نحن؟ رحماك رباه!
إن لله قدرة عظيمة لا يمكن إدراكها.. وإن تدبر آية من آياته المسطورة أو المنظورة، تفعل بقلبك الأفاعيل وتجعل اللسان لا يفتر عن تسبيحه جل في علاه.. وتكسر الكبر بداخل الآدمي وتجعله يخضع ويسلم لهذا الرب القدير سبحانه..
سبحانك ربي ماقدرناك حق قدرك!










