“أنا أول من يدخل مرحلة التوجيهي في عائلتي، ووالدي يعلق عليّ آمالًا كبيرة”، “خَائف بشكل رهِيب من رُدود فعل العائلة”، “أدرس وأتعب والنتائج لا تُرضي أحد”، “خائف من تأملات أهلِي بي”، “أعيش بين هُموم الدراسة وتوقعَات الأهل”، “كل درجة أقل من المُتوقع تجعلني أشعر بأنني فَاشل”، ، “والدي يناديني دكتورتي، لكنني لا أرغب في دراسة الطب”.
هكَذا يدور الحَديث بين طلّاب التوجيهي، معلنين الضغط الذي يجعل الدرجات أثقل من الأحلام، والذي جعل من رغباتهم كوابيس، حيث أن الأهل ضغطوا بشكل ممتاز على أبنائهم كي يحصلوا على نتائج عالية للغاية، حتى أَعلنت وزارات الصِّحة العام الماضي في مختلف الدول عن عدد جيّد من حَالات الانتحار، والسَّبب؛ خَوف الطلاب من نتَائج التوجيهي.
وبعض الأهالي الآخرون -أو نفسهم-، يجبرون أولادهم على دراسة تخصص جامعي معيّن، دون أدنى رغبة من الابن نفسه، وهكذا تتلاشى أحلام الأبناء. فهل يعتقد الآباء أن هذا الضغط لمصلحة أبنائهم، وهو الذي سيجعل من أولادهم متفوقين في دراستهم؟ وهل يدركون صوت أبنائهم تحت وطأة العذاب النفسي ويقصدُون تجاهله؟ أم أنهم يتعمدونَ إخراسهم توقًا في تحقيق رغباتهم الذَّاتية التي عجزوا عن تحقيقها في شبابهم؟
بداية؛ على الأهل أن يدركوا أن الضغط هذا لا يؤدي إلى نتيجة مرجوّة، سوى هلاك أبنائهم نفسيًا وجسديًا وعقليًا ودراسيًا، وإن سألتني لمَ ذكرت إرهاق النفس والجسد والعقل قبل هلاك الدراسة، فسأخبرك بشفافية؛ أن السلامة النفسية للولد أهم من دراسته بنسبة ١٠٠٪، فأنتَ كأب، وأنتِ كأم، من حقوق أولادكم عليكم أن لا تؤذوهم في نفوسهم بغيةَ تفوقهم في دراستهم، فإن كانت نفوسهم قد هُدَّت من ضغوطكم؛ فكيف لهم أن ينجحوا بدراستهم؟
هذا الضغط يولد إنسانًا خُلِق من رحم التوتر؛ فكيف له أن يركّز في دراسته؟ مسؤوليتكم كأم وأب، أن تبعثوا الطمأنينة في قلوب أبنائكم، لا أن تزيدوا الطين بلة!
فأولادكم يكابدون عناء الدراسة، وينسجون من أقلامهم جسورًا ليعبروا عليها فوق نار الإجهاد، ويسجنون أنفسهم في غرفهم بغية الوصول إلى النتيجة التي ترضيهم هم بدايةً، ولكنهم رغم ذلك بضغطكم هذا تجعلونهم لا يضعون أحلامهم نصب أعينهم؛ بل ويحاربون رغباتهم رجاء تحقيق رغباتكم؛ فأيُّ إحسان ستجزون به؟
سقف توقعاتكم هذا يجب أن ينخفض حتى يصل إلى درجة جهد الولد، وعليكم معرفة أنه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فلمَ تجعلون النفس تحمل ما لا تطيق؟
وقد قال الله في كتابه: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾. هذا جهد ولدكم، فمن رضيَ رضي، ومن سخطَ سخط، إن كان ولدكم يتوكل على الله ويبذل قصارى جهده ليصل إلى درجة جيدة بالنسبة له؛ فأين البأس؟
ولدكم أخذ بالأسباب، ودرس وتعب، ثمَّ قدَّم اختباره، والنتيجة على الله، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾، عزم على الدراسة، وتوكّل على ربه، فلمَ اللوم هذا كله؟
طبعًا لا أقول هذا رغبةً في تقليب الولد على والديه، ولا أن يسيء الولد إلى والديه؛ فَهُما ومهما فعلَا لا يجوز الإساءة إليهما، وليس لي نية بذلك، والله شهيد؛ ولكنني أبيّن حجم المعاناة التي يتعرضها أبناؤكم في درب الضغوط التي تزرعونها في طريقهم.
ثم من ضغط النتائج، إلى فرض الرأي والحرمان من اختيار التخصص الذي لطالما سعى إليه؛ فإذا كان التخصص هذا لا يؤدي إلى فساد، ولا تكون دراسته حرام، ولا فيه ضرر؛ فلمَ الحرمان؟ فنرى من يجبر أولاده على دخولهم لتخصص الطب مثلًا، أو الهندسة، فقط لكونهما -بنظر العامة- أنبل وأرقى وأعظم تخصصين، وبقية التخصصات أدنى، والمشكلة أنهم يقيسون ذلك على أنفسهم، ويخافون من استخفاف الناس بهم وكلامهم عنهم (ماذا إن قال الناس: انظر لم يدخل ابنه إلى مجال الطب/الهندسة/أو غيره)، ويحذرون أبناءهم بقولهم: (أتريد أن تذلّني وتذل عائلتنا بعدم دخولك إلى هذا التخصص؟ ألا تأبه بكلام الناس عنك)؟
تبًا يا هذا، تبًا للتخصص وللناس، أنا أقول على هذا تبًا، والآباء يقولون بشكل غير مباشر من خلال أفعالهم: (تبًا لأحلام أبنائنا، كلام الناس أهم).
أيها الآباء والأمهات! أصبحتم تجعلون درجات التوجيهي قضية حياة أو موت، وأقول هذا بالمعنى الحرفي، فموت أبنائكم انتحارًا بسبب ضغطكم يؤدي إلى هلاكهم آخرة ودنيا، وجعلتم أحلام أبنائكم تُذبح بالواقع. لا أقول لا تحرصوا عليهم، ولكن أقول: لا تجعلوا من حرصكم المبالغ قيود تكبّل أقدام وأحلام أبنائكم.