ما ينفك الله يذكرنا بحقيقتنا في القرآن، إنسان محتاج فقير، ذو ضعف وهوان واستكانة. ضعيف بجبلته التي خلقه الله عليها، قال العزيز الحكيم: ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾، وقال تبارك وتعالى: ﴿۞ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾.
والإنسان ضعيف نفس، ﴿لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾، ﴿ظَلُومًا جَهُولًا﴾، ﴿عَجُولًا﴾، ﴿هَلُوعًا﴾، ﴿جَزُوعًا﴾، ﴿فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾. وهو متأثر بالشهوات، حيث ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾. ومن ثم ضعيف عقل وعلم، ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا﴾، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾. ضعيف عاطفيًا، ﴿يَبْكُونَ﴾، ﴿فَضَحِكَتْ﴾، ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾، ﴿فَرِحَ﴾، ﴿أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ﴾. ضعيفٌ بطبعه، ومتأثر بما حوله.
وضعفه أَعظم من هذا وأَكثر: فَإنه ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم، ضعيف الصبر، والآفات إليه مع هذا الضعف أَسرع من السيل في الحدور.1
الإمام ابن القيم رحمه الله
ولأجل ضعفه هذا، وضع الحكيم الخبير العليم بمن خلق حدودًا له يقف عندها؛ ليعرف قدره ويستذكر عبوديته، ويتصرّف وفقًا لفقره وحاجته لربه الرحيم ومنته وفضله عليه، وكله رحمةً به وبضعفه، ومراعاة له ولحاجاته، وتكليفًا له بما يطيق: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾، ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾.
وقد وجهه لخير سبيل وأشد ركن يلجأ له بضعفه وقلة حيلته وكل طارئ يحل به، ومنها قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾، ﴿وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَـانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا﴾، ﴿أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾، ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
ومن ثم وضع له حدودًا وقواعد ليحسن في معاملاته مع من هم أضعف منه. حيث راعى مولانا تفاوت هذا الضعف بين عباده؛ فنظمه بأحكم ما يكون: فالأم لها قوة تراعي بها ضعف طفلها: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن﴾. والرجل له قوة يكون بها قوامًا على زوجه وولده: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ﴾، ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ﴾، ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾. واستوصى باليتامى والمساكين والوالدين: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾، ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾. ونهى عن الاستكبار وسوء المعاملة: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾، ﴿لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾.
فانظر لعظمة خالقنا ورحمته، وتأمل في بديع تدبيره وتنظيمه ومراعاته لخلقه وعباده، ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾.
وأما إنكار هذا الضعف الذي هو أصل في خلقة الإنسان، واعتقاد الاستحقاق والأهلية التي تجعل المرء يسخط على ربه إن لم يأته ما يريد: ﴿وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾، أو يفرح فيما أتاه ويراه من حسن نفسه: ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ﴾، أو يعتقد أنه مستغنٍ عن الله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾؛ فما ذلك إلا سوء أدب مع الله، وموجب للعقاب والسخط لمن يتكبّر ويستغني: ﴿وَاسْتَكْبَرَ… فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ﴾، ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾، ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا﴾.
وذا القلب الحيّ والبصيرة النافذة؛ يعرف حقيقته كما أخبره بها ربه سبحانه، ويلزم الهدى والنور المبين الذي ما جاء إلا ليخرجه من ظلمات الجهل إلى نور الهداية وليدله على سبيل الرشاد وطريق النجاة.
فليحسن الإنسان معرفة قَدْرِهِ، وليكُن عبدًا فقيرًا بين يدي ربه، وليأتمر بأمر مولاه ويحتكم لتوجيهاته؛ ليفز في الآخرة ويزحزح عن النّار؛ وإلّا فقد خسر خسرانًا مبينًا وباع الجنّة بشهوات نفسه واغتراره بضعفه.
- طريق الهجرتين (1/228) ↩︎