في عالمٍ غلب عليه الضجيجُ والقيل والقال، كثُر فيه اللغو وتطرق إليه البذيئ من الأخلاق والأقوال، في عالمٍ نسي فيه المسلم أن الكلمة يحاسب عليها، في عالمٍ تكثر فيه الفتن وتدور فيه الأحاديث الزائفة، في وسط كلِ هذا؛ احفظ عليك نفسك وامسك عليك لسانك واعلم رحمك الله أن الصمت نجاة.
قيمة الكلمة في الإسلام
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صمت نجا”.
وهذا يبين لنا كيف أن الكلمة خافضة رافعة، كيف أنها سلاح ذو حدين. لذلك؛ راقب الله في كلماتك، واسأل نفسك قبل الكلِمِ: أيرضاه الله؟
فالكلمة بها تحيا الأمم وبها تُهدم، فهي تملك قوة عظيمة يمكن أن تكون مصدراً للشر أو مصدراً للخير.
فبالكلمة الطيبة ينتشر الود، وبالدعوة إلى الله تحيا القلوب وتزهر، فأنا وأنت سفراء للإصلاح بأقوالنا وأفعالنا، فكم من كلمة قيلت أحيا الله بها قلوباً هالكة وزكى بها نفوساً مظلمة؟ وكما ورد في الحديث الشريف: “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه”.
هذه الكلمات التي تقولها بقلب صادق ولسانٌ يلهج لقول الحق وإيقاظ الناس ودعوتهم إلى الخير، تساهم في بناء مجتمع صالح ومتآزر يقف على الثغور ويرفع راية الإسلام.
وبالكلمة أيضا تهدم القلوب والأمم، الكلمة قد تكون سببًا في حياة قلب، أو هلاك نفس. فهناك كلمة تُورِث الهداية، وتفتح أبواب الرحمة، وكلمة جارحة قد تُطفئ نور القلب وتُورث الحزن والمعصية.
فاحفظ لسانك، فإن الكلمة قد تُحيي قلباً أو تقتله، وأمة الإسلام بُنيت على الكلمة: (لا إله إلا الله)، فكانت سبباً في اجتماع القلوب تحت راية التوحيد، فكيف إذا كانت الكلمة تدعو إلى الشرك أو البدعة أو الفرقة؟
قال الله تعالى: {ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد}.
كل كلمة تُقال محسوبة، وقد تهوي بصاحبها في النار. فالكلمة ليست شيئاً عابراً؛ بل أمانة عظيمة، إن خرجت بصدق وعلم وهداية؛ رفعت الأمة، وإن خرجت بجهل وهوى؛ أحرقتها من داخلها. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم سبعين خريفًا.”
تربية نبوية على الصمت
النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعلّم أصحابه أن الكلام مسؤولية عظيمة، فقال: “وهل يكبّ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟” رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت” متفق عليه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح الناس، وأقلهم لغواً، وكان إذا تكلم؛ تكلم بكلام واضح، مختصر، فيه نفع. لم يكن يكثر من الكلام؛ بل يوجزه ويوصله بحكمة، فكان أصحابه يتأسون به.
وكان يحذرهم من الغلو في الجدال والكلام بلا علم، فقال صلى الله عليه وسلم: “أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِم” رواه البخاري. لأن كثرة الجدال والغلو في الكلام مما يُميت القلوب ويُثير الفتن.
ربّى النبي أصحابه على مراقبة كلامهم، وتجنّب الغلو في القول، وجعل الكلمة موزونة بميزان الإيمان. علمهم أن اللسان طريق إلى الجنة أو النار، وأن النجاة في الصمت إلا من خير.
وبهذا تبين لنا أن الصمت ليس ضعفًا؛ بل عبادة قلبية وسلوك نبوي راقٍ، فالكلمة مسؤولية، وقد تكون سبب نجاة أو هلاك، وبالصمت تُصان القلوب، وتُغلق أبواب الفتنة.
فلنلزم سكون اللسان، ونتعلّم فن الإمساك عن اللغو، حتى نحيا بقلوب نقية، وألسنة طاهرة، ترجو ما عند الله، وتخشاه في كل لفظ يُقال.