فرحه ﷺ
قال الشيخ المنجد: (خلق الله تعالى البشر، وخلق فيهم مِن الصفات الفِطريّة، والأمور الجبلية، ما جعلهم يعرفون بها قدر نعمة الله تعالى عليهم. ومن تلك الصفات صفة الفرح، وأعظم الفرح، وأفضله، وأتمه، وأكرمه: الفرح بنعمة الدِّين، المتصلة بسعادة الدَّارَين، قال تعالى: ﴿قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذلِكَ فَليَفرَحوا هُوَ خَيرٌ مِمّا يَجمَعونَ﴾، أي كما جاء في تفسير ابن كثير: بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق، فليفرحوا؛ فإنَّه أولى ما يفرحون).
قال السعدي -رحمه الله-: (وإنما أمر الله تعالى بالفرح بفضلهِ ورحمته؛ لأنَ ذلك ممّا يوجِب انبساط النّفس، ونشاطها، وشكرها الله تعالى، وقوتها، وشدّة الرغبة في العلم والإيمان، الداعي للازدياد منهما، وهذا فرح محمود، بخلافِ الفرح بشهواتِ الدنيا ولَذّاتِها، أو الفرح بالباطل؛ فإنّ هذا مذموم، كما قال تعالى عن قوم قارون لهُ: ﴿لا تَفرَح إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحينَ﴾).
فكان النبي ﷺ إذا فرح، ظهر ذلك على وجهه فاستنار، فعن كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله ﷺ إذا سُرَّ استنار وجههُ، حتى كأنّهُ قِطعةُ قمر…)، وكان ﷺ يفرح بدخول الناس بالإسلام، لا سيّما من كان من أعيانهم. قال ابن عبد البر -رحمه الله-: (وفيه: ما كان عليه رسول ﷲ ﷺ من السُرور والفرح، بإسلام قريش، وأشراف الناس، وكذلك سائر من أسلم).
وممن فرح الرسول ﷺ بإسلامهم: عكرمة بن أبي جهل، وهو من سادات بني مخزوم، وعظمائهم. وعدي بن حاتم، وسواد بن قارب، وكان من أشراف اليمن.
وكان ﷺ يفرح بظهور الحق، ومن ذلك، فرحه بتبيّن الحق، وتأكّده في صحة نسب أسامة بن زيد إلى أبيهِ -رضي الله عنهما-. وفرحه ﷺ بظهور براءة عائشة -رضي الله عنها- يوم حادثة الإفك. وفرحه ﷺ عندما اختارته عائشة -رضي الله عنها- كذلك لمّا نزلت آية التخيير.
وكان ﷺ يفرح إذا سمع خبرًا يُصدّق بعض ما أخبر به، أي: إذا أخبر الرسول بشيءٍ فسمع خبرًا يوافق ما أخبر به ﷺ كان يفرح به -عليه الصلاة والسلام-. وكان أيضًا يفرح إذا أصاب أصحابهُ خيرًا، ومن ذلك فرحهُ ﷺ بتوبة ﷲ تعالى على كعب بن مالك وأصحابه -رضي ﷲ عنهم- الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك.
وربما فرح ﷺ بلقاء من يُذكّره بمن يُحب، ومن ذلك سروره بقدوم هالة بنت خويلد، أخت خديجة -رضي الله عنها-. وكان يُسر ويفرح بسماع الكلام الحسن من أهل الإيمان، وكان يفرح لمبادرة الصحابة إلى طاعة ﷲ. وكان من سنّته ﷺ أنه إذا جاءه ما يُفرحه ويسرّه سجد للّٰه شاكرًا.
حزنه ﷺ
يقول الشيخ المنجد: (الإنسان السَّوي لا بد أن يعتريه الشعور بالحزن، إِذا وجدت أسبابه؛ لأنَّ الحزن كما فُطر عليه الإنسان، كالفرح، والألم، والغضب، والرضا، ونحو ذلك، فهي عوارض طبيعية للبشر في الدنيا. ولهذا حكى ﷲ تعالى عن أهل الجنَّة قولهم: ﴿الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي أَذهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفورٌ شَكورٌ﴾، وهذا يشمل كل حزن، فلا حزن يعرض لهم، بسبب نقص في جمالهم، ولا في طعامهم، وشرابهم، ولا في لذاتهم، ولا في أجسادهم، ولا في دوام لبثهم، فهم في نعيم، ما يرون عليه مزيدًا، وهو في تزايد، أبد الآباد. والنبي ﷺ كان يحزن كغيره مِن البشر، كما قال تعالى: ﴿قَد نَعلَمُ إِنَّهُ لَيَحزُنُكَ الَّذي يَقولونَ فَإِنَّهُم لا يُكَذِّبونَكَ وَلكِنَّ الظّالِمينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجحَدونَ﴾).
ومن الأحوال التي حزِن فيها ﷺ: حزنه عند فتور الوحي، فقد كان يحزن ﷺ حزنًا شديدًا بسبب تأخّر الوحي؛ خشية انقطاع النبوة، وزوال الاصطفاء من ﷲ تعالى له.
وكان يحزن أيضًا عند عدم استجابة قومه له وهو يدعوهم لتوحيد ﷲ، حتى مرةً سألته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن يومٍ هو أشدّ عليه ﷺ من يوم أحُد فقال ﷺ: “…وكان أشدَّ ما لقيتُ منهم يوم العَقَبة…”، وهذا عندما دعى أهل الطائف إلى عبادة ﷲ وتوحيده، فلقيَ منهم ما لقيَ، فدته روحي صلوات ربي عليه.
وكان مما يحزنهُ ﷺ أيضًا ما كان يلقى من أذى أهل مكة لهُ. ومن حزنه ﷺ أيضًا حزنهُ على عمه أبي طالب لمّا مات على الكفر. وحزِن ﷺ كذلك على القُرَّاء السبعين الذين قُتِلوا غدرًا. حتى قال أنس -رضي الله عنه- في حديث طويل له اختتمه: (فقَنَتَ رسول ﷲ ﷺ شهرًا حين قُتِل القُرّاء، فما رأيتُ رسول ﷲ ﷺ حَزِنَ حزنًا -قط- أشدَّ منه). والقُرَّاء: هم سبعون رجلًا من الأنصار، كانوا يقرءون القرآن ويتدارسونه بالليل ويتعلّمونه، وقد بعثهم الرسول ﷺ في سرية، فعرَضوا لهم ببئر معونة، فقُتلوا غدرًا فيها.
ومن حزنه ﷺ أيضًا، حزنه على مقتل زيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة -رضي الله عنهم- في معركة مؤتة. وحزنه ﷺ كذلك على استشهاد عمّه حمزة -رضي الله عنه- يوم أحد. وكذلك حزنه ﷺ لمّا دخل الكعبة؛ خوفًا أن يكون قد شقَّ على أُمته.