على رفوف أحد متاجر المواد الغذائية: علبة شاي، علبة بُنّ وعُلب أُخَر. قلِّب أي واحدة منهم بين يديك؛ ستجد مكتوباً بعبارة عريضة، وخطّ غامق: “لسنا مسؤولين عن سوء التخزين”.
فالبُن فاخِر، وعمليّة الطحن كانت وفق المعايير. لكن؛ إن رميت العلبة في مكان رَطب؛ لا تَلُم إلا نفسك، ثم إن ذهبت لصاحب الشركة محتجاً؛ لن تحظى إلا بنظرة حادّة، وإشارة بسبّابته للعبارتين شديدتي الوضوح: (لسنا مسؤولين عن سوء التخزين)، (توضع في مكان جاف).
حين خلَق الله عز وجل آدم عليه السلام؛ تساءلت الملائكة في رحابة تسبيحها وتقديسها لله عن هذا المخلوق الذي سيعيث فساداً: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}؛ فكان علمه إيذاناً للترقّي من الطين إلى إنسان الخِلافة.
ما أعظمها! يرتجف القلب من هولها. نزل للأرض بذنب ارتكبه؛ فعَلم أنه لا ينفك عن الذنب؛ لكنه دائم الأوبة لله. لكن حين يحرفَ الآدميّ مسارَه بإرادته؛ تضيق الدنيا عليه؛ لأنه وضع نفسه في مكان لا يليق بمهمّته.
يا ابن آدم، لا ترمِ قلبك في رمال الشهوات المتحركة، ثم تصرخ أنجِدني، ثم تتبجّح لمَ لا تسمعني يا ربي؟
خلق الله عز وجل الإنسان في أحسن تقويم، وفطره على كل ماهو خير، فقلبه كغُصن أخضر غضّ الإهاب. لكن؛ حين يؤثر الابتعاد عن الينابيع النقية، سيذوي، ويتخشب حتماً، ولن يبقى منه إلا حطب لجهنّم.
حين يجوب الظلمات، يُنكت في قلبه نُكت سوداء تظلم نوافذه روحه، ثم يشكو لمَ أعتمت الدنيا، لمَ لا أرَ النور؟
ابتعَد عن النور، آخر كتاب أُنزل إلينا من فاطر السماء شفاءٌ لما في الصدور. قطع آخر حبل يصله بالسماء، نكس رأسه، وراح يبحث في حصا الأرض.
{كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ}، ظنّ أنه غنيٌّ عن الله؛ فاستغنى.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (إنما هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره).
آثر الضلال، ترك البيّنات، اتّبع الرُخَص حتى رأى نفسه مجندلاً بذنوبه، غرق في مستنقع الحرام، صار بينه وبين قافلة الحق مسيرة أعوام.
لا تضع قلبك في مكان جافّ ثم تشكو قساوته؛ بل املأه بالوحيين ليستحيل ربيعاً مورِقاً. لا تفسد حسن ما خلق الله في قلبك، فيكسوه الران وتغلَّق أبوابه بالأقفال وتكسو الغشاوة عينك.
لا تنسى آيات الله ثم تتساءل متبجّحاً يوم القيامة عن سبب عمايتك التي جنَيْتها بإرادتك: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [سورة طه: 124-126].