رابعة أحيتني، وصاحب الفوائد بلغ مني مبلغاً عظيماً، ولا زال القلب يتوق لكل شيء يمكن أن يقربه إلى ربه، فيظفر بالمحبة والقرب والولاية.
قرأت مرة عن قيام الليل، وعن أولياء الله الذين
﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾؛
فأحببت أن أكون منهم وأسير على خُطاهم؛ فأحوز على الخير الذي حازوه، وأنال من بركات طريقهم إلى الله.
لم يكن وقتها رؤية مسنٍّ يقوم الليل بالشيء الذي يُستغرَب، فقد اجتمع الرأي أن لم يبق من عمره إلا القليل الذي ينبغي صرفه إلى طاعة الله والانشغال بذكره والتوبة إليه؛ لكن الذي يستغرب ويأخذ بالألباب رؤية شاب ينصب أقدامه في جوف الليل، تاركاً وراءه وسادته وفراشه الوثير، طلباً لما عند الله؛ فكيف بالذي هو أقرب إلى الطفولة منه إلى الشباب؟
هكذا كان فهم الناس لقيام الليل، وهذا ما كان معترفاً به، لكن نفسي حدثتني أن أجرب وأكون على هذا النهج.
الأمر لم يكن سهلاً، فكثيراً ما غلبني النعاس وغالبته، ودفعني ودافعته، حتى استقام لي الطريق واشتد عودي فيه، فكانت أجمل اللحظات وأنعمها.
وهكذا سيكون حال كل مريدٍ لله، إن أراد أن يسلك طريقا في العبادة، فلا بد من مجاهدة عوائق الطريق وعلائق النفس، وإلا فلا مجال للوصول وحصول المراد.
أذكر مرة أنني طلبت من أختي أن توقظني في وقت بعينه من الليل، فطمأنتني أنها ستفعل إن استطاعت. كانت لي رغبة شديدة في القيام، ولكني خائفة أن لا أستيقظ، ويفوتني هذا الخير، وغالب الظن أني لم أكن أملك حينها منبهاً لأعتمد عليه.
نمت ليلتها على أمل الاستيقاظ، وفي جوف الليل وعند الساعة المرغوبة سمعت ذاك النداء بين اليقظة والنوم: (قومي فقد حان الوقت)، وكان نداء مُجدًّا وصارماً! لقد كانت أختي! هكذا حدثت نفسي ثم مضيت لصلاتي وباقي عبادتي، وما لبثت أن سألتها في الصباح: هل أيقظتني بالليل؟ فردت: لا والله لم أوقظك!
فعلمت أن ذلك النداء إنما هو مدد رباني لما رأى مني صدق الطلب والخوف من ضياع المطلوب لقلة المعين، فكان هو المعين.
وهنا أقف وقفة تدبر واعتبار، أجول بها في الناس وما يدور في خلدهم، فما أكثر من يغفل عن صلاة الفجر، ينام عنها وقد أوتي من وسائل التنبيه ومن المعينات الشيء الكثير، ثم إذا عاتبته أتاك بألف عذر من تعب وقلة نوم وعدم قدرة على استيقاظ، وأنه أوقف المنبه وهو نائم فصار في حكم النائم حتى يستيقظ، وهكذا من الأعذار الواهية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
قلت في نفسي: لو أن هؤلاء كان لهم صدق المسير إلى الله لجدّوا في الطلب ووثبوا عند أول وقت، لكنهم كذبوا فأبطأ بهم المسير، فالمستعدون تكفيهم أقل الأسباب، أما من خارت همته وانطفأت عزيمته فاته بكل سبب ومعين، إن شئت فلن يجدي نفعاً، فالمسير مسير قلوب لا مسير أجساد.
تعلمت من تجربة قيام الليل؛ فصلاة الفجر، ثم البقاء مستيقظة حتى الصباح؛ نعيم اللحظات وجمال الأوقات المباركة لما تكون عامرة بما يرضي الله تعالى.
لم أكن من قبل أدرك أهميتها عندما نمت مع النائمين، ولم أستيقظ إلا وقد أشرقت الشمس وبسطت أشعتها في كل مكان، أما الآن وقد ذقت طعم القرب وجمال الأوقات وجلالها فقد صرت أنظر للنائمين بعين استغراب، كيف رضوا لأنفسهم بمقام الغفلة وتخلفوا عن المعالي بين يدي لحظات كلها بركة وسمو وارتقاء؟
وهكذا سيكون حال كل مريدٍ لله، إن أراد أن يسلك طريقا في العبادة، فلا بد من مجاهدة عوائق الطريق وعلائق النفس، وإلا فلا مجال للوصول وحصول المراد.