يا لها من رحلة!

|

يا لها من رحلة! خواطر سائرة إلى الله

عجباً لهذه النفس، كيف يقلّبها الله من حال إلى حال، وينقلها من مقام إلى مقام؟ فما إن سَمَت إلى مقام الطائعين، وأحست بلذة القرب وبرد اليقين، وارتقت في مدارج السالكين؛ حتى تعترضها زلة من الزلات، أو غفلة من الغفلات؛ لتردّها إلى حقيقتها، وتُعرّفها قدرها، وتجبرها على الانكسار في حضرة سيّدها، فتعرف بذلك أن لا فضل لها في الطاعة، وإنما الفضل كله لمن ألهمها حسن الالتزام، وأعانها عليه بينما حرم غيرها ذلك؛ فتزيدها الزلة ذلاً وافتقاراً، وتنقلها إلى مقام الطائعين من جديد من باب العبودية المطلقة لرب العالمين.

أذكر أنني خضعت هذا المعنى مراراً وتكراراً، وأنا بين الصبا والشباب، ولكن العجيب في الأمر أن عاقبة المعصية مؤلمة جداً، حتى وإن كنت في أعلى مقامات الطاعة قبلها. كأنني بنيت صرحاً عظيماً ثم انهار في لحظة، وعلي أن أتكبّد عناء بنائه من جديد.
ولا زال العناء والمشقة ضاغطان على تلك الفتاة السائرة إلى ربها؛ حتى تنهار ضعفاً وقهراً، وتعلم أن لا ملجأ من الله إلا إليه؛ فترتمي على أعتاب العبودية طالبة الصفح والمعونة، وحسن التدبير لأَمَةِ السّوء التي لا تحسن التدبير.

أذكر يوماً وقد سرحت في مقام اللهو، وأخذت مني الغفلة كل مأخذ، وبلغت مني مبلغاً؛ دخلت البيت وإذ بوالدتي وضعت شريطاً مسجلاً يتحدث عن رحلة الإنسان نحو الدار الآخرة، وصوت الشيخ فيه من الشدة والحزم ما ينخلع له القلب ويطيش له كل ذي عقل لبيب.
كانت جوارحي منشغلة بما قد هَمَمْتُ به، أما القلب فمطرق يستمع باهتمام لتلك الكلمات والمواعظ. ومع كل حركة وسكنة في صوت الشيخ، وكلّ هدوء وصيحة ألف معنى ومعنى.

رحلة الموت، يا لها من رحلة! حينما يترك الإنسان الملذات والشهوات، والأحلام والطموحات، والمكاسب والمغانم، ثم يُسلم لربه، ويخرج من هذه الدنيا مجرّداً من كل شيء، كما جاء إليها كذلك، ثم لا ينفعه من هذا الفصل في حياته إلا ما قصد به وجه ربه من قول أو فعل وعمل، وأما الباقي فسَيُرْكَمُ جميعاً في غياهب الزوال.

في هذه اللحظات اليسيرة التي عشتها مع رحلة الموت، أحسست أن كل قسوتي قد ذابت، وأن غفلتي قد زالت؛ فإذا بي شخص آخر قد استعد للتوبة النصوح وتجديد المسير.

وهنا أقف وقفة صدق مع كل شخص صعب عليه المسير، بعدما كان مجدّاً فيه، وحالت بينه وبين لذّة الطاعة غفلته، وجفَّفتْ عينَه من مدامعها قسوتُه؛ أُذكر الموت ورحلة الدّار الآخرة، فإنَّها والله تذيب قسوة السنين، وتهدّ جبال الغفلة والبعاد، وتمسح عن العين غشاوتها؛ فإذا أنت مبصر مستعد لمواصلة الرحلة في طريق المريدين ربّهم، الراغبين في القرب والولاية.

عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فقام رجل من الأنصار، فقال: يا نبي الله، من أكيس الناس وأحزم الناس؟ فقال: “أكثرهم ذكراً للموت، وأشدهم استعداداً للموت قبل نزول الموت، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة”.

رحلة الموت، يا لها من رحلة! حينما يترك الإنسان الملذات والشهوات، والأحلام والطموحات، والمكاسب والمغانم، ثم يُسلم لربه، ويخرج من هذه الدنيا مجرّداً من كل شيء، كما جاء إليها كذلك

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة