كان العمر يمضي، وأنا ما زلت على حالي في سيري إلى ربي، فمرة أخطئ ومرة أصيب، وتارة أتقدم، وتارة أخرى أتأخر ويبطئ بي المسير. وأنا بين هذا وذاك في شغل شاغل؛ فمن يطلبني سيجدني حتماً في خلوتي، مع كتاب أو جريدة، أو مع أوراق متناثرة بين يدي؛ أنظم بيتاً أو أكتب خاطرة، أو لعلي أكتب مقدمة رسالة طلبتها مني أختي لتبعثها لإحدى القريبات. ولطالما أعجبت أختي بما أكتب، وكثيراً ما أنصتت لإلقائي عليها أيَّ شيءٍ أخطه على أوراقي.
أذكر أن جدي كان يتردد على بيتنا بين الفينة والأخرى، فإذا لم يرني يقول أين هي “المرابطة”؟ و”المرابط” عندنا هو الولي الصالح الذي زهد في الدنيا رغبة في الآخرة.
ولعل ميلي إلى العزلة وقراءة الكتب الدينية، وحالات الذكر وقيام الليل وصيام الاثنين والخميس، والاستماع للدروس المسجلة والأناشيد الإيمانية؛ توحي لمن هم حولي أنني شخص غير عادي، أو على الأقل لا أشبههم من حيث الاهتمام بالطاعة، والحرص عليها. وهذا ما كان يبدو جلياً في بعض التعليقات والأحاديث الجانبية التي كنت أسمعها حول استقامتي وصلاحي.
أذكر أن أمي دخلت عليَّ مرة وأنا منكبّة على أوراقي، وقد أحضرت في يدها وعاءً كبيراً به ماء، لتخبرني أن قريباً لنا يريد أن أرقيه.
- أرقيه؟!
- نعم يريد أن ترقيه، هكذا طَلب مني. أجابتني والدتي.
قمت يومها بقراءة رقية تعلمتها من كتيبات أختي، التي كانت ترسل لها من المملكة العربية السعودية؛ ولكن في داخلي شيء ما ينغص راحتي ويكدِّر صفوي.
- لم لا يرقي نفسه بنفسه؟! لما أرقيه أنا؟! وقد علمت من نفسي من الخطأ والغفلة، ما لا يعلمه أحد.
ذكرت حينها مقالة صاحب الفوائد في كتابه: (إذا عزم العبد على السفر إلى الله تعالى وإرادته، عرضت له الخوادع والقواطع، فينخدع أولا بالشهوات والرياسات والملاذ والمناكح والملابس، فإن وقف معها انقطع، وإن رفضها ولم يقف معها، وصدق في طلبه ابتلي بوطء عقبه، وتقبيل يده، والتوسعة له في المجلس، والإشارة إليه بالدعاء، ورجاء بركته ونحو ذلك) إلى آخر كلامه رحمه الله.
أدركت عندئذ أنها عقبة الغرور، وما ينبغي للسائرين إلى الله المجدين في سيرهم أن يلتفتوا إلى مثل هذا.
فيا أيها السائرون إلى الله، الساعون إليه، إياكم وخوادع الطريق. وإنّ من أكثر الخوادع التي أصابت الكثير من الصالحين في مقتل، وأوردتهم شر الموارد في هذا العصر؛ حب الثناء.
وقد زادت مواقع التواصل الاجتماعي الطين بلة في هذا، وحال سواد الناس سعي نحو شهرة ومدح وإشارة بالبنان، من خلال كشف المستور وإظهار الطاعات، فلم يعد لأحدهم خبيئة عمل بينه وبين ربه. ومن كان هذا حاله، فأنّى له أن يبلغ المنزل؟!