ما كان حُبّاً

|

ما كان حبا خواطر سائرة إلى الله

عمّت السّعادة تلك الليلة، وامتلأت بصراخ الأطفال وضحكاتهم خارج البيوت، وهم يلعبون وينطّون هنا وهناك، والدنيا لا تسع بهجتهم واحتفاءهم بهذا اليوم السعيد.
لقد كان يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم الذي انتظرناه على أحرّ من الجمر؛ فجهزنا له فوانيس صنعناها بأيدينا من أوعية المعلبات، وأوقدنا فيها شموعاً، وسرنا بها في الظلمات، وكلّ واحد يزهو بفانوسه.

كنّا صغاراً لا نفقه من الأمر سُنّة ولا بدعة، وكل ما يشغل عقولنا الصغيرة أن هذا مولد خير الأنام. نردد فيه بعض الأناشيد التي تذكرنا بفضائل وشمائل نبينا، ونأكل حلوى لذيذة نصنعها خصيصاً لهذا اليوم، ونختم سهرتنا بمشاهدة فيلم “الرسالة”؛ لتثبيت المعاني واستحضار عظمة الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

أذكر مرة أن والدتي حدثتني عن عادات إحدى القبائل العربية يوم أن كانت في صباها. عادات غريبة عجيبة لم يستوعبها عقلي، ولم تتقبلها فطرتي. فقد كانوا يعملون ما يسمى “حضرة” في مسجد. و”الحضرة” هي أصوات المزامير مع الدف يؤديها من هو مؤهل لذلك، مع رقصات غريبة وطقوس عجيبة وكأنها عملية استحضار للجن والشياطين.
لقد أصابني الذهول من حديث أمي؛ إذ كيف لهؤلاء القوم أن يحتفلوا بمولد خير الأنام بمزامير الشيطان في المسجد.

بقي حديث أمي راسخاً في ذهني؛ إلا أن نظرتي لهذا الاحتفال وقتها لم تتغير؛ فمازالت تلك العادة جميلةً مبهجةً في قلبي، رغم أنها من البدع المنكرة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وما سعادتي بها إلا لقصور في علمي فرضه صغر سني يومئذ.

وها هي المدنية الحديثة اليوم تطلّ برأسها كتنين ضخم يلتهم كل ما يجد أمامه. فلم تترك للفطرة وجهاً إلا دنسته، أو مرآة للقلب إلا أصابتها بالصدأ؛ فصار المنكر معروفاً والمعروف منكراً، وأينعت رؤوس البدعة، وتعالت أصواتها باسم الدين، والدين منها براء.
فهل يعقل أن يحتفى برسول الله صلى الله عليه وسلم بكل المنكرات التي يبغضها؟

لقد تعلمنا منذ نعومة أظافرنا، وفي مرابع طفولتنا، وفي مدارسنا أن “المحب لمن يحب مطيع”. لم نختلف يوماً في هذا المعنى؛ فالحبيب ميال بالفطرة لحبيبه، متلمس لما يهواه فيأتيه تودداً إليه.

كيف تغيرت معايير زماننا وتغيرت معها طبائع النفوس؟ أم أن طبائع النفوس ما زالت كما هي لم تتغير؛ ولكنه الكذب والنفاق لما يكون الأمر متعلقاً بالدين؟
فهذا اللاعب “كريستيانو رونالدو”، ومن من البشر لا يعرف هذا اللاعب؟ محبيه والمتعلقين به بالملايين. ولعل أكثرهم من شباب المسلمين.

لقد رأينا هؤلاء الشباب كيف يدفعون أموالاً طائلة لشراء قميصه، أو حذائه، أو حضور مباراته. رأينا كيف يتنافسون على قَصّة شعره، أو طريقة لبسه، أو احتفائه عند تسجيله لأهدافه. لقد رأينا تتبعهم لأخباره، وأخبار أولاده، وصديقته التي لم تكن يوماً زوجته. حتى باتوا يعرفون عنه ما قد لا يعرفه هو عن نفسه، وكل ذلك باسم الحب والإعجاب بهذا الشخص المبهر، الذي عز أن يكون له نظير على حد قولهم.

فليحبوا ما شاؤوا وليفعلوا ما بدى لهم، فليس هذا بمقام الاستفاضة في هذا الموضوع، والشاهد من هذا الحديث أن كيف يُفعل من أجل “كريستيانو” كل شيء باسم الحب والإعجاب، بينما يُدّعى حب النبي صلى الله عليه وسلم وتُفعل باسم ذلك كل المنكرات التي لا يحب. إن هذا لعمري في القياس عجيب. وإنه لنفاق جلي؛ إذ لم يُحبّ محمد صلى الله عليه وسلم يوماً عند هؤلاء المدّعين، ولو أحبوه لالتزموا بسنته وشريعة ربه.

إن من أعجب ما رأينا، أن يحتفى بالمولد النبوي في دولة إسلامية بحفل غنائي ساهر، على أنغام الموسيقى، ومغنيات كاسيات عاريات، وتبرّج وسفور! وإن من أعجب ما رأينا، أن يحتفى برسول الله بمفرقعات وألعاب نارية نزفت منها الجيوب، وأعمت العيون، وأضرت وأفسدت، فما أفادت ولا نفعت! وإن من أعجب ما رأينا أن يحتفى برسول الله بكعكات عجيبة غريبة، كُتب عليها “عيد ميلاد سعيد محمد”! ثم إن من أعجب ما رأينا على الإطلاق، أن يصنع شيء يشبه الضريح، ويُتّبع بأهازيج وأغان من طرف نساء ورجال!

فليت شعري ما هذا الهَبَل؟ وكيف يصدق عاقل أن هذا نِتَاجٌ لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيَتَقرّب الناس إلى “كريستيانو” بما يحب، ويتقربون إلى رسول الله بما يبغض؟ أيتوددون إلى “كريستيانو” بقَصَّة  شعره التي يحبها، وطريقة لبسه التي يهواها، ثم يتوددون إلى رسول الله بالقزع والسراويل الضيقة والممزقة والتبرج والسفور؟

أيقلدون “كريستيانو” في كل ما يفعل تودداً وحباً، ويتوددون إلى رسول الله بكل بدعة وضلالة؟

لقد صدق حبهم لكريستيانو إذ حذوا حذوه في كل شيء، ولكن حبهم لرسول الله لم يكن يوماً صادقاً. وقد رأينا تلك المرأة التي سألها المذيع ماذا تفعل إن كان رسول الله حاضراً بيننا؟ فبكت وعبرت عن حبها لرسول الله، ثم لما هاجرت إلى أمريكا ارتدّت وتبرأت من محمد ودينه!

فحب رسول الله ليس مجرد عواطف آنية؛ ولكنه أعمق من ذلك.

إنه التزام كامل بسنته في الأقوال والأفعال ومظاهر الحياة كلها؛ وهؤلاء هم الصادقون حقاً.

إليك عنا فما تحظى بنجوانا
يا غادراً قد لها عنا وقد خانا

أيقلدون “كريستيانو” في كل ما يفعل تودداً وحباً، ويتوددون إلى رسول الله بكل بدعة وضلالة؟!!!

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة