ما أجمل تلك التّحف الفنية التي كان يصنعها أبي من مادة الجبس في أوقات فراغه. أشكال وكتابات بالخط العربي الأصيل، مزينة بأبهى الألوان، وقد ظهر فيها الحس الفني لوالدي.
أذكر أن أكثر ما كان يصنعه من تلك التحف، ما كُتب عليها كلمتي الله ومحمد. لقد كانت هذه الكلمات مصدر إلهامه؛ إذ يشكلها ويلونها ثم يعلقها على الجدران، فلا يخلو جدار من واحدة منها.
ربما كانت تلك الكتابات عند غيري مجرد تحف للتّزيين؛ لكنها بالنسبة لي تعني الكثير. فلطالما إن كنت في حزن وضيق شديد فنظرت إلى كلمة “الله” المعلقة على الجدار؛ انشرح صدري، وأحسست بسعادة غامرة، وفرحة تكاد معها روحي تطير.
كنت صغيرة ليس لي علم بأسماء الله الحسنى بما يكفي، ولا أعرف من كلمة “الله” سوى أنه اسم ربي، وأَنْ لا خوف عليّ ما دام موجوداً.
فكم من مرة نظرت إلى رسم الكلمة على الجدران ففاضت عيناي، ورق قلبي، ولهج لساني بالدعاء، وشعرت بهمة في العبادة.
وكلما ضاقت عليّ نفسي وألَمَّ بي حزن؛ كفتني نظرة إلى الجدار حيث ذلك الرسم؛ حتى أستشعر معية الله وأني بعينه التي لا تنام. يسمع ويرى ولا يخفى عليه شيء من أمري.
غيري يصرف أموالاً طائلة في جلسات نفسية، ومواعيد طبية، وأدوية للكآبة، وأنا تكفيني نظرة إلى رسم على جدار حتى أستعيد عافيتي، وتنشط همتي فأكون أسعد النّاس!
ربما ينظرون إليَّ على أنني البسيطة الفقيرة، والحقيقة أنّي أغنى منهم؛ إذ صرفوا أموالهم التي يتفاخرون بها بحثاً عن سعادتهم، أما أنا فجاءت السعادة تسعى إليّ؛ إذ كفاني ربي شقاء الغدوة والروحة، وصرف المال، وكثرة التفكير والانشغال بالداء والدواء.
إن معية الله لعباده المؤمنين نعمة لا تضاهيها نعمة؛ إذ كيف يحزن ويشقى من كان الله مولاه؟
فيا أيها المحزون، أليس الله بكاف عبده؟ ألم يأن لك أن تُطَلِّق أحزانك، وترمي أثقالك وأوجاعك على عتبة ربك فيتحملها عنك؟
يا صاحب الحاجات والرغبات، أليس الله بكاف عبده؟
ألم يأن لك أن تعفّر وجهك في الأرض سجودا وتذللا لربك الكريم، فيتحمل عنك همّ الحاجات، ويهيء لك الأسباب والمسببات لكل ما ينفعك، ويَصْلُحُ لك في الدنيا والاخرة؟
يا صاحب الأمراض والأوجاع، يا من ضاقت عليه الأرض بما رحبت، أليس الله بكاف عبده؟ ألم يأن لك أن تستغيث بربك، مثل القشة في بحر هائج، ليس لها من ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، فيفتح لك أبواب السماوات والأرض، رحمة ولطفا وعناية؟
يا من أغلقت في وجهه الأبواب، وصدّ عنه القريب والبعيد، والصاحب والحبيب، أليس الله بكاف عبده؟
ألم يأن لك أن تنادي في الظلمات والناس نيام: يا ربي أنت الصاحب والحبيب، يا قريباً غير بعيد، فيذلل لخدمتك كل شيء، ومن كان في رحمة الله ومعيته فلا ضل ولا ذلّ ولا قلّ؟
يا كل إنسان يبحث عن سعادته فلا يجدها ولا يهتدي إليها سبيلاً، أليس الله بكاف عبده؟ ألم يأن لك أن تنادي بأعلى صوتك: “الله” {الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين}؛ فيصبّ عليك من الخير صبّاً، ويكفيك ما أهمّك من أمر الدّنيا والآخرة؟
هو “الله”
منذ تَبدَّى لناظــــــــــــــــــري
بَلْبَلَ الشّوقُ خاطـــــري
حاضرٌ غيرُ غـــــــــــــــــــــــــــــائـبِ
ساكنٌ في الظمـــــــــــــــــــائرِ
هو كنزي الذي بـــــــــــــــــــــدا
في الرسومِ والدوائـــــــــــــــــــرِ
فيا أيها المحزون، أليس الله بكاف عبده؟ ألم يأن لك أن تُطَلِّق أحزانك، وترمي أثقالك وأوجاعك على عتبة ربك فيتحملها عنك؟