مشهد من مشاهد يوم القيامة: هدية أمي تحت الركام!

|

(قصة لن أنساها ما حييت)

كنت في سن العاشرة في إحدى الأيام، قررت أمي شراء نسخ عدة من المصحف الشريف، وتوزيعه على العائلة، وفعلاً جاءت بنسخ كثيرة وبدأت توزيعها، فهذا للأخ الكبير وذاك للأخت الكبيرة، وهذا لها، وآخر للأخت الوسطى ثم الأخ الأصغر وهكذا.
فبقي معها نسخة وأنا أطمع بأخذها، لأنه لم يتبقى أحد أكبر مني سناً إلا وأخذ نسخة، فعرضت ذلك على أمي فلم توافق لأني طفلة صغيرة آنذاك، عاودت سؤالها بأن تعطيني النسخة ووعدتها بالحفاظ عليها، فوافقت وشددت علي بالحفاظ عليها لأنه ليست كباقي الكتب، إنه قرآن يُتلى إلى يوم القيامة، ولا يجوز امتهانه وعدم الحفاظ عليه أو إلقائه هنا وهناك.

فأخذته والفرحة تعم قلب تلك الطفلة البريئة، ولأن النسخ متشابهة بالمظهر والألوان، بدأ كل شخص فينا يكتب اسمه على نسخته لئلا تختلط نسخنا، وذهبت لأدون اسمي عليه قبل أن تغير أمي رأيها، ها أنا كتبته وأصبح لي حقاً، اطمأننت لأن ذلك سيحفظ لي نسختي من الضياع أو غيره، دارت الأيام وكبرت تلك الطفلة وحافظت حقاً على الهدية كما وعدت والدتها.

لم تنتهي القصة فما زلنا في البداية، انقلبت الأيام واندلعت الثورة العظيمة في شامنا الحبيبة، واستعرت الحرب في أرضنا، وبدأ القصف الهمجي لدى طاغوت الشام يسقط فوق رؤوسنا، لا خيار أمامنا ونحن الضعفاء لا نملك شيء للدفاع عن أنفسنا، وما كان منا إلا أن نخرج من ديارنا ونبتعد عن ذاك الحميم. خرجنا حقاً والدمع يملأ قلوبنا قبل العيون؛ لكن لحظة، هناك شيء لا بد أن يرافقني، (مصحفي) هدية أمي! كانت نسخة صغيرة لذلك قررت أن ترافقني في حقيبتي الخاصة بي، كنت آخذها معي كلما اشتدت الحرب وهُجِّرنا من منطقة لأخرى، كان الملاذ في نزوحي، فلما يعلو الخوف أرجاء قلبي، أفتح نسختي لأهدئ من روعي، هذا كان حالنا جميعاً، فأصوات القصف المرعبة تدوي فوق رؤوسنا ونحن بصحبة كتاب الله.

وفي إحدى الأيام، كنا قد هُجِّرنا لإحدى القرى الصغيرة، وبينما نحن جلوس في يوم الجمعة وفي ساعة الاستجابة بالتحديد، إذ وقعت صواريخ عدة فوق منازلنا التي لجأنا إليها! يا الله، ما الذي حصل؟ دمار هائل وصراخ، نساء وأطفال هنا وهناك، أصوات الإسعاف، قهر الرجال بعينه، فِرق الإنقاذ فوق رؤوسنا، ياربَِ سلِّم، وكأنها القيامة!

بدأ كلٍّ منا يطمئنُّ على الآخر، فكانت تلكَ الحادثة بمثابة معجزة، لقد هُدِمت بعض زوايا وجدران المنزل، وبعضها ظلَّ واقفا يحمينا بقدرة الله.

خرجت عائلتنا بكامل الصحة والعافية، بفضل الله، بينما جيراننا بين قتيل وجريح، هذه قُطِعَت أطرافها، وتِلكَ قُتِلَ وليدُها! ذاكَ فقدَ عائلته، وآخر فقد ذاكرته، إنه جُرم النصيرية، وحِقدهم على الإسلام، وعزاؤنا هنا أنه قضاء ربنا جل في علاه، وفي كل لقطة وحادثة، في كل دقيقة تتسلل لأذهاننا عظمة خالقنا، وتُجسد أمامنا معاني الآيات، (لكل أجل كتاب) وكأنها تْتلى علينا أول مرة! 

قال تعالى

{هُوَ ٱلَّذِى يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۖ فَإِذَا قَضَىٰٓ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ}.

هرعنا نمشي في الطريق نبحث عن مكان آمن، وكأننا حُفاة، سُكارى وما نحنُ بسُكارى، ولكنه الخوف تسلق القلوب حتى بلغت الحناجر، لجأنا لأحد المنازل لنغفو بسلام، بعيداً عن تلك الحادثة المليئة بمشاهد القيامة. في اليوم الثاني ذهبنا لمكان الحادثة، لنتفقد ما بقي من متاعنا، وما أقساه من مشهد، البارحة كان هنا أناسٌ يعيشون بسلام آمنين، وأطفالٌ هناك فرحين، وهنا عِبَرٌ وتساؤلاتٌ لا تنتهي، كيفَ يُكفرُ بربٍّ عظيم، ألا يتفكر أولئك الملحدون أن الله قادر على نسف مُلكهم نسفاً؟ بل ألا يتفكر بني جلدتنا أن الدنيا فانية؟ هذه المشاهد حقاً ستظل عِبرة وذِكرى.

قال تعالى

{إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.

أرواحٌ زُهِقت، ونفوسٌ شرِّدت بتلك البساطة وهذا الزمن الذي هو بضعة دقائق فقط! غرقنا في بحر من العِبَر، وفجأة تذكرتُ، هدية أمي! كنتُ أحتفظ بها في حقيبتي الصغيرة، وكنت قد وضعتهما في النافذة أو عليها، ذهبت أتفقدهم فلم أجد لا الحقيبة ولا النافذة!

بحثتُ كثيراً بين الركام، علني أجد شيئاً مما فقدت ولو أني أجد مصحفي؛ لكن هيهات هيهات، نعم، لقد نُسِفت تلك النافذة ونُسِفت معها أغراضي وذكرى هدية والدتي!
حزنتُ وما الحزنُ يُجدي نفعاً، خرجنا من تلك القرية تاركين خلفنا جبلاً من ذكريات الآلام والأحزان، طويتُ تلك الذكرى وغلفتها بغلاف حزين راضٍ بقضاء الله.

مضت الأيام ومرت الشهور، وعاد أهل الخير ببناء تلك المنازل التي هْدِّمت، وبعد شهور عدة التقيت بامرأة كانت موجودة في الحادثة، فقالت لي عندما جاء العمال للبناء وجدوا مصحفاً مدوَّن عليه اسمك.

وقفتُ مذهولة أتفكر، أحقاً هو، هل يُعقل هذا؟ وبعد مدَّة جاءت إليَّ به، يا الله، لا أكاد أصدق الموقف؛ لكن كيف وهو بين يدي، فتحته وإذ باسمي مدون عليه!
سبحان الله! هذا تصديق لقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.

عادت إلي هدية أمي، وعادت الذكرى محمَّلة بعبرٍ لا تُنسى.

هذه حادثة واحدة ومثلها آلاف الحوادث؛ لكنها رسَّخت معاني عظمة الله وقدرته في قلوبنا، ويا ويحنا ما عبدناه حق عبادته، ويا ويلهم أعداء الإسلام، ما قدروا الله حق قدره. فاللهم عليك بطاغية الشام فإنه طغى وتجبر وعلا في الأرض علواً، وجعل أهلها شيعاً، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نسائهم، يارب انتقم منه فإنه من المفسدين.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة