يندُر أن يُحافِظ المُسلم على وَتيرةٍ ثابتةٍ في سيرِهِ إلى الله؛ فتراهُ يُهَروِلُ تارَةً، ويَمشي أخرى؛ بل ويَحبو حَبوًا في أحيانَ كثيرة. فهو في صراعٍ دائمٍ مع الشّيطان، وفي مُجاهدٍة لا تنتهي مَع نفسِه، والفُتور حاصِلٌ لا مَحَالَة.
لكِن هناك نوعٌ من الفُتور؛ لهُ ظُلمة ووَحشة لا مثيلَ لها. ذاكَ الفُتور الذي يظنُّ المرءُ أنّهُ لن يعودَ منهُ، ذاكَ الفُتور الذي يرَى العبدُ فيهِ من القسوةِ في قلبِهِ ما لم يَعهَدها منهُ سَابقًا. ذاكَ الفُتور الذي يَطولُ ويشعرُ العبدُ فيهِ بحُرقَة وخَوْف شديدٍ؛ ومع ذلك لا يجدُ صوتَهُ ليدعو ولا السُّهولةَ ليعبُد.
أرغِم نفسَك! أرغِمها وتذَكَّر أنَّ الجنَّةَ حُفَّت بالمَكارِه، أرغِمها وتذكَّر أنَّك لستَ وحيدًا بهذا، وأنَّك مأجورٌ ما سعيتَ وحاوَلت. حدِّث نفسَكَ يَوميًّا عَظيمَ عَفوِ ربِّ العِباد، وحدِّث نفسَكَ عظيمَ نِعَمِهِ عليكَ، وما وفّقكَ إليهِ من تَوحيدِه والاشتِغالَ بِمَرضاتِهِ.
حتّى همَّكَ هذا نِعمَةٌ وأجرٌ! أن تنامَ وتَستيقِظ وَجِلًا خائِفًا من حالِك وبُعدِك، أن تكونَ مَهمومًا ضائقَ الصّدرِ رهبةً من الحَوْر بعد الكَوْر. لن تضيعَ ما كانَ هذا همُّكَ، ولن تخيبَ ما دُمتَ تَسعى وتُجاهد؛ ولو حَبوًا، ولو جَرًّا.
لقد وَهبَك الخالِق سُبحانَهُ أعظمَ هِبَةٍ على الإطلاق وأنتَ لم تسأَلها، لم تَرفع كفًّا يومًا لتُحصِّلَها، لم تَذرِف دمعةً ليلًا رجاءَ الفوزِ بها؛ ولكنَّك حُزتَها رحمةً منهُ وفضلًا. أَيَرُدُّكُ الآنَ وأنت تتضرَّع لهُ إلحاحًا وافتقارًا بأن يُثَبِّت قَلبَك على الحقِّ حتّى لُقياه؟ أَيترُككَ الآن وأنت تسأَلهُ سؤالَ الغريقِ بأن يُسَلّمَك من الفِتَن والشُّبُهات ويُميتكَ على التَّوحيدِ والسُّنَّة؟ أَيفعلُ ذلك وأنت تُؤثرُ أن تَخِرَّ منَ السَّماءِ على أن تَعودَ عن دينكَ مقدارَ الفَتيل؟ لا والله لَن يفعل، وحاشاهُ أَن يفعل.
أيَترُكني وأنا أشدُّ على جَمرةِ ديني؟ أَيترُكني وأنا أحاولُ وأسعى بما أوتيتُ من قوّةٍ؛ للثَّبات على الطّريقِ رغمَ شدَّةِ التَّضييق؟
نعم، نقصّر. نعم، نُخطئ ونُذنِب؛ لكن والله سنعودُ ونتوبُ ونَستغفرُ ما دامَت أرواحُنا في أجسادِنا! والله لن نَستسلِم! لأنّ استسِلامَنا يعني أن نَتركَ أنفُسنا عُراةً للشّياطين. سنبقى نُحاول ونُجاهد، سَنظلُّ عند بابهِ نَقرَعُهُ ذُلًّا وافتِقارًا وانكِسارًا حتى يُفتَح؛ فلا بابَ سِواه، ولا ربَّ سِواه، ولا مُجيبَ سِواه، ولا نَرجوا إلا إيّاهُ!
بُثَّ مخَاوِفكَ إليهِ ولُذ بهِ واعتَصِم، وإن لم تَجِد صوتَكَ، فحسبُكَ (يا ربّ) صادقةً من القلبِ، هو أعلَمِ سُبحانه بما تحمِلُه في طَيّاتِها من الهَمِّ والضّيقِ والحاجةِ إليهِ.
اجعَل ظنَّكَ بهِ عظيمًا، اجعَل ظنّكَ به كَبيرًا، وسَيستَجيب تَيقَّن من ذلك.