عندما تضاربت الآراء، بين من يدعي حضارة التعري، ومن يستقذرها ويعتبرها انتكاس للفطرة، وعلت أصوات العابثين، وسال لعاب الكلاب والحاقدين، وارتعد أصحاب الغيرة، وتألمت قلوب الواعظين، وكثر الحديث ما بين تأييد وانتقاد. في ظل هذه المناظرات، يتبادر لذهني “القابض على دينه كالقابض على الجمر”.
ثم تكاد لا تغيب عني قصة ثبات إحدى النساء، عندما كانت في عمر الزهور، وحريٌّ بنا أن نعتبر بقصص الثابتين على الدين في زمن الغربة، ونسأل الله الثبات على الحق في الدنيا والآخرة.
وها هي تروي لنا قصتها قائلة: (عندما عزمت على ارتداء النقاب، وكان ذلك في السنة الأولى من مرحلة التعليم الإعدادي؛ كان في قلبي شوق عميق لتلك اللحظة التي أرى فيها نفسي باللباس الشرعي الساتر، كنت قد عرضت الأمر على والدتي بارتداء النقاب وما يخصه، كنت وقتها بمرحلة التعليم الأساسي؛ لكنها لم توافقني الرأي رغم كثرة إلحاحي، وكان الدافع لذلك أن اللباس الشرعي بدأ ينتشر في قريتنا بين المجتمعات التي تحب الالتزام بشرائع الدين.
وعائلتي إحدى العوائل التي التزمت بهذا اللباس، فكانت والدتي وأخواتي قد ارتدينه آنذاك، واحدة تلو الأخرى؛ فكلما رأيت منتقبة أشعر بالاعتزاز والفخر، وأتمنى أن أكون مكانها. الأمر غريب في نظر العامة تلك الأيام، أن تطلب فتاة بهذا العمر ارتداء الساتر، خاصة أنه لم يكن ذاك اللباس منتشر كما هو الآن).
حقاً أستشعر الآن قلب تلك الطفلة في أعين الناس؛ لكنها حقيقة ليست كذلك، كانت تحمل همَّ الستر والحياء رغم صغر سنها!
تقول: (رأيت مراراً فتيات يلبسن ذاك اللباس وهم أصغر سناً، فأزداد رغبة وشوقاً، وكان لي بمثابة دليل لأقنع والدتي بأن أرتديه؛ ولكنها تعيد الرفض بحجة أنني ما زلت صغيرة. لا شك كان لزاماً علينا أن نرتدي اللباس المدرسي المعتاد، كان بداية هدفي أن أحصل على العباءة أولاً؛ ليسهل علي طلب النقاب والقفازات. طبعاً لما دخلت (المستوى الأول الإعدادي) وانتقلت لمدرسة الكبار، حاولت جاهدة حتى حصلت على العباءة، بحجة أني أستحي من اللباس المدرسي لأنه غير ساتر؛ فهو عبارة عن بنطال وسترة، فرحت جداً لأني وصلت لنصف الطريق، فلا بد أن أكمل لأعلو القمم، لن أتوقف بالمنتصف سأكمل للنهاية.
بعدها انتقلت بالأمر للنقاب، وعدت ألح على والدتي بأن أكمل اللباس الشرعي كاملاً، فها أنا كدت أصل لمرحلة الصبا، وأخشى نظرات الشباب. كان قلبي يعتصر ألماً، كلما رأيت في نظرات أحدهم إعجاباً، سواء من الشباب القريبين من عمري، أو حتى من الرجال الكبار في نظري؛ فلا يعلم أحد بنظرات الرجال إلا الرجال، وامرأة حيية تخاف أن تفتن أو تُفتن. أخيراً كانت فرحة تلك الطفلة لا توصف ذلك اليوم، فلقد وافقت والدتها وسمحت لها بارتداء النقاب وما يليه).
تقول معبرة عن شعورها: (في اللحظة الأولى من ارتدائي لذاك اللباس كاملاً؛ شعرت بالفخر والعزة، شعرت بالانتصار والسرور، كانت هذه اللحظة بالنسبة لي حقاً بمنزلة حلماً طال انتظاره، والآن قد تحقق؛ فأي شعور ذاك وأي سعادة عمَّت قلبي؟ فلا الكلمات ولا الحروف قادرة على وصفها..
لم تنتهي القصة فلا بد من الابتلاء، طريق العفة ليس مفروشاً بالورود؛ فلا بد من أشواك تعيق المسير.
تكمل: (جاء وقت الامتحان الدراسي الأخير، وكان في نظري بمثابة امتحان في الدنيا والدين! دخلت المدرسة كالعادة طبعاً باللباس الشرعي، دخلنا قاعة الاختبار، ولا يمكننا وضع النقاب داخل المدرسة؛ لذا كنت ارتديه فقط في الشارع ذهاباً وإياباً، انتهيت وهممت بالانصراف، سلمتُ ورقة الإمتحان وخرجت لباحة المدرسة لأضع نقابي كعادتي قبل الذهاب، فجأة أحدهم يلاحق خطواتي، وكان ذاك الرجل تقريباً بمعنى بديل المدير.
التفت فإذا به يلاحقني، ويكلمني، لأخرج من المدرسة بسرعة، تعمدت أن أريه أني أود ارتداء النقاب قبل الخروج؛ لكنه أصر أن أخرج بدونه! تألمت من ذاك الموقف، وقلت علها صدفة! في اليوم الثاني تكرر نفس الموقف من الشخص نفسه، التفت للباحة من الطرف الآخر، وكانت تلك صدمة لم أتوقعها، كان هناك الكثير من الفتيات يسرحن ويمرحن، أصواتهم تعلو بالمرح واللهو؛ لكنهن متبرجات، ليس مثلي! ثم آنذاك حاول طردي بقوة، بحجة ألا أحدث ضجة أو أحاول مساعدة أحد بالامتحان أو ما شابه؛ لكني تيقنت تماماً أنه يطاردني لأجل لباسي الساتر، لا لأجل ما يدعي.
عجباً! خرجت، وياللحياء، فأمام المدرسة يوجد موقف للسير، والشباب ينتظرون دورهم بالامتحان عند باب المدرسة، ابتعدت عنهم قليلاً، ثم ارتديت نقابي،لم أتمالك نفسي، وأجهشت بالبكاء طيلة الطريق، وظلت أتساءل: كيف لرجلٍ مسلم أن يطارد طفلة بهذا العمر، من أجل لباسها الذي يدل على هويتها الإسلامية؟
كان ذاك الموقف بالنسبة لي، كافٍ لأن أنهي دراستي، فلا حاجة لي بالدراسة إن كانت على حساب استنزاف الغيرة والحياء من قلبي، توقفت عن الدراسة والتزمت بيتي، فما يهون على المرء إهانة شعائره مهما كان الثمن، لم يكن موقفاً عادياً، ولا قصة عابرة في حياتي، ولم أندم أبداً على ما فعلت؛ لكني أعتبر هذا إنجازاً عظيماً، وربحاً وفيراً، ورزقاً كريماً من الله العظيم).
خلاصة القول يا أخية: إن أنعم الله عليكِ باللباس الشرعي، اثبتي عليه ولا تترددي، ولا تهتمي لما قيل أو يقال عنكِ، ولا تلتفتي للمثبطين المستهزئين بكل خطوة تخطيها نحو الالتزام بالدين.
افخري بانتمائك للإسلام، ولا تساومي على شيء من دينك مقابل حطام الدنيا، سواء مال أو دارسة أو علاقة محرمة أو غير ذلك، وربَّي بنياتكِ على حب الستر، وعلميهن أنه حصن لنا من النار، وبراءة من عري الفجار، وأنه بمثابة حارس المدينة من الأشرار، يكفي صاحبات اللباس الشرعي فخراً بأنهن أطعن قوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن}.
وأسأل الله الإخلاص والثبات لي ولكن.