يوم في الجنة

|

كنت أمشي في الجنة في ذهول من ذلك الجمال الذي لم أر مثله قط؛ أرض ذهبية قد غطاها حشيش أحمر من زعفران، أمّا ترابها وما أدراك ما ذاك التراب، لم يكن يشبه تراب الدنيا؛ لقد كان مسكاً! أمّا الحجارة والحصباء فمن لؤلؤ. نعم والله، إنه لؤلؤ! ذاك الذي عزّ علينا في الدنيا فلم نستطع إليه سبيلاً، فيا لسعادتي بهذا النعيم!

نظرت في الأفق؛ فإذا بي أرى شيئاً عجباً! قصور ومساكن طيبة، وخيام من لؤلؤ، وغرف يُرى ظاهرها من باطنها. هذا قصري لقد عرفته! وتلك قصور أبنائي وأهلي وأحبابي! لقد جاوروني وجاورتهم، فاليوم وصال لا فراق بعده، وقد أبعدتنا في الدنيا المسافات والعصور والأزمان. ولا تسألوني عن هذه الأنهار التي تجري من تحتها. ما أعجب هذا النهر شديد البياض! إنه لبن؛ لكنه لم يخرج من ضرع فلم يتغير طعمه! وذاك نهر من ماء غير آسن! يا الله! نهر من عسل؟! نعم إنه نهر من عسل صافٍ خالٍ من أي شائبة! وذاك نهر خمر؛ لكنه ليس كخمر الدنيا المسكر المخمر للعقول!

وبينما أنا أمشي مذهولة من جمال تلك المشاهد العجيبة؛ إذ رأيت عن قرب نفراً من أهل الجنة جالسين على أرائك متقابلين، بينهم زرابي مبثوثة ونمارق مصفوفة وأكواب موضوعة، والملائكة تدخل عليهم من كلّ باب.

فاقتربت منهم لأرى ما الخبر؛ فإذا به ينادي علي باسمي. رفعت رأسي ونظرت إليه، ويا لسعادتي بجلال المنادي! لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم! نعم، لقد نادى علي، وذكر اسمي على شفتيه أن أقبلي فأقبلت، وبادرته بالسلام فأدناني، ثم ما لبثت أن بدأت أبثه ما قد لاقيت بالدنيا، وحدثته حديثاً طويلاً، ثم قلت: يا رسول الله لقد سمعت مقالتك ووعيتها: “أقربكم مني منازلا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً”. كنت أود قربك يا رسول الله، فسعيت بكل ما أطيق. لقد كنت أخوض معارك داخلية لا يعلمها إلا الله، وإن أشد ما كنت أعالج، نفسي التي بين جنبي.

فكم جاهدت لأستقيم على ذاك الخلق، ولم أفلح. حاولت مراراً ولم أقدر. وتمنيت حينها لو كنتَ قريباً مني لأشكو إليك حرّ ما ألاقي، كما كان يشكو إليك أصحابك، فتدلني على المخرج والسبيل. نعم، تمنيت ثم نظرت يميناً وشمالاً فلم أجدك، فقلت لا مفر من المجاهدة يا نفس.

أقسمتُ يا نفس لَتنزِلِـــــــــــــــــــــــنَّ
لَتنزلنَّ أو لَتُكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرهِنَّ
إنْ أَجلبَ الناسُ وشَدُّوا الرنّه
ما لي أراكِ تكرهين الجنـــــــــــــــــــة
قد طال ما قد كنتِ مطمئنّـــــه
هل أنتِ إلا نطفة في شَنّـــــــــــــــــه؟

فنظر إِلَيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: وها أنت اليوم قد وفّاك الله حسابك، وأجزل عطاءك، وإنكِ من أقرب الناس إليَّ منازلاً! فتهلل وجهي، وخفق قلبي من عظيم الخبر، وتهللت الوجوه من حول رسول الله. نعم، تهللت وجوه أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وسعدوا لسعادتي. وبينما أنا كذلك؛ إذ وقع ناظري على ابنة رسول الله فاطمة، وبجانبها الحسن والحسين -رضي الله عنهم-؛ فتذكرت فتن الدنيا وما أحدثه الرافضة من بعدهم. وجلست بين أيديهم، وحدثتهم عن هؤلاء الذين تَخفُّوا بحب آل البيت وتمادوا بظلمهم، وقسوة قلوبهم، وتآمرهم على أهل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفساد قلوبهم ومعتقداتهم! فضحكت فاطمة رضي الله عنها، وطمأنت قلبي أن أبشري فقد نجاكم الله منهم، والعاقبة للمتقين.

ثم تذكرت ظلم اليهود وإجرامهم فقمت سريعاً، ولسان حالي ومقالي أين نبي الله موسى؟ فنادى علي من هناك أن أقبلي يا أمة الله، فأقبلت إليه، وسلمت عليه، وقلت: يا نبي الله، لقد كنت طول الوقت أعجب من صبرك على هؤلاء القوم، كلما رأيت ظلمهم، وطغيانهم، وتجردهم من كل رحمة، وكأنهـم ما خلقـوا بشـراً. فـأي قـوة في نفسـك، وأي جَلَدٍ حباك الله به، ذاك الذي عالجت به نفوس بني إسرائيل؟ فضحك وقال: هوني عليك، فقد نجاكم الله منهم كما نجاني، وقد نالوا ما يستحقون من العذاب، وإنهم يصطرخون الآن في النار؛ فبدت أسارير وجهي، واستبشرت بالخبر.

وما زلت على تلك الحال، أتنقل من نبي إلى نبي، ومن صحابيّ إلى صحابيّ إلى أمهات المؤمنين، أحادثهم ويحادثونني، وسعادة اللقاء تملأ القلوب، ونعيم القرب يغشى الأرواح؛ حتى نادى منادي أن يا أهل الجنة لديكم موعد لن تخلفوه! فأتتنا أحصنة بأجنحة، وحملتنا إلى مكان فسيح عليه منابر وكثبان، قد عرف كلٌّ مِنا مكانه. وبينما نحن كذلك إذ بالله تعالى يخاطبنا: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فقلنا جميعاً: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ وتجنبنا من النار؟ وما زلت أعدد لربي نعمه علي، وسعادتي بهذا المقام الذي أقامني فيه، وإذ به يكشف الحجاب! إنه ربي! إنه ربي! إنه ربي! أراه عياناً كما كنت أرى القمر في الدنيا، لا أضام في رؤيته ليلة البدر!

فيا أيها المشتاق إلى ربك، إن كان هذا مشهداً في مخيلة أَمَةٍ ضعيفة بائسة، قد شابها العجز والجهل بما في عالم الغيب والشهادة، فكيف بمن شاهد واستشعر نعيم الجنة حقيقة، وقد نال فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر! فجدّ في الطّلب، فقد أزف الرّحيل.

واعمل لدار البقاء رضوان خازنهـــــــا
الجار أحمد والرحمن بانيهـــــــــــــــــــــــــــــــــا
أرضها ذهب والمسك طينتهـــــــــــــــــــــا
والزعفران حشيش نابت فيهـــــــــــــــــــــا
أنهارها لبن محض ومن عســـــــــــــــــــــــل
والخمر يجري رحيقا في مجاريهــــــــــــــــا
والطير تجري على الأغصان عاكفــــــة
تسبح الله جهراً في مغانيهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
من يشتري الدار بالفردوس يعمرها
بركعة في ظلام الليل يخفيهــــــــــــــــــــــــــــــــــا
أو سد جوعة مسكين بشبعتــــــــــــــــــــــــــه
في يوم مسغبة عم الغلا فيهــــــــــــــــــــــــــــــــا

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة