يا بني الإنسان، يا من وهبكم الله نور البصيرة ووهج الفؤاد، ويا من حباكم بعقل يتدبر وروح تتأمل، كيف يستقيم الفكر، وكيف تطيب النفس، لِمَن يرى في الانتحار قشة الخلاص، وفي إطفاء شمعة العمر نهاية المتاعب؟ إنها لفكرة مؤلمة، وهْمٌ كاذبٌ ينسج خيوطه الشيطان في لحظة يأس، ليُوهم المرء أن في الفناء راحة، وفي العدم سكونًا، وما هو إلا قفزة في المجهول، وهروب من واقع لم يُواجَه بعد، إلى نار تلظى!
عندما يغتالُ اليأس بصيص الأمل، وتُثقلُ الكروب كاهل الروح، قد يغيبُ عن العقل الصواب، ويخبو نور البصيرة عن إدراكِ الحقائق. في تلك اللحظاتِ الحالكة، قد تبدو الحياة ثقلًا لا يُطاق، والأزمات جبالًا لا تُزاح. هنا يكمنُ مكمنُ الخطر، حيث تتسللُ الأفكار الظلامية، وتُزينُ النفس لنفسها أنَّ الانتحار هو الحلُّ الأخير والوحيد للهروب الأبدي من عصف الواقع المرير.
وقد تكون أسباب هذا الضلال متعددة؛ فمنها الاكتئاب الحادّ الذي يُلقي بظلالهِ القاتمة على كلِّ جوانبِ الحياة، ومنها إدمان تعاطي المُحرّمات التي قد تُذهِبُ العقل وتُفقدُ الإدراك، ومنها الصدمات النفسية العميقة التي تكسرُ القلب وتُطفئُ وهج الروح، أو حتى الشعور بالوحدةِ والعزلة في عالمٍ أصبح متصلًا ظاهريًا ومنفصلًا جوهريًا. والأهمّ من ذلك كلّه، ضعف الوازع الديني، فضلًا عن قلّة الإيمان. ولكن، هل هذا هو الحلُّ حقًا؟ وهل يملكُ الإنسان حقَّ سلب هذهِ الوديعة الربانيةِ؟
إنَّ أجسادنا التي نحملها ليست ملكًا لنا وحدنا، بل هي أمانةٌ من ربّ رحيم، نفخَ فيها من روحه، وصوّرها فأحسنَ خلقها. فكيف يجرؤُ العبد على تدميرِ ما أودعهُ الخالق فيه؟ وكيف لهُ أن يُزهق روحهُ التي بين جنبيه وهي أمانة الله لديه؟
إنَّ الإسلام، هو دين الرحمة والعقل، قد وضع حياة الإنسان في أعلى مراتب القدسية، وحرّم المساسَ بها تحريمًا قاطعًا، وجعلَهُ من أكبرِ الكبائر وأعظمِ الذنوب. ولقد جاءت الآيات القرآنية صريحةً واضحةً في هذا الشأنِ، كالشمسِ في وضحِ النهارِ، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾. تأمّلوا هذهِ الآية العظيمة، وكيف ينهى الله -سبحانهُ وتعالى- عن قتلِ النفس، ويختمها بوصفهِ ﷻ بالرحيم! كأنَّ رحمتهُ تعالى تقتضي أن نبقى أحياءً، أن نصبر، أن نجاهد، وأن نطلبَ منهُ العونَ لا أن نيأس!
ولم تكن السّنةُ النبويةُ المطهّرة بأقلّ وضوحًا وحرصًا في هذا التحريم. فقد روى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- قالَ: «مَن تَرَدَّى مِن جَبلٍ فَقتلَ نَفسَهُ فهوَ في نَارِ جهنَّم يتردَّى فيها خالِدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا، ومَن تحسَّى سُمًّا فَقتلَ نفسَهُ فسُمُّهُ في يَديهِ يتحسَّاهُ في نَارِ جهنَّم خالِدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا، ومَن قتلَ نفسَهُ بِحديدَةٍ فحديدَتُهُ في يَدهِ يَجأُ بِها في بطنِهِ في نَارِ جهنَّم خَالِدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا».
ويزيد الأمر وضوحًا وقصةً تُروى، يرويها لنا رسولُ الله -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- حديثًا يحملُ في طياتهِ تحذيرًا صارخًا وعبرةً بالغةً، حيثُ قال: «كان فيمَن كان قَبلَكُم رَجُلٌ به جُرحٌ، فَجَزِعَ، فأخذَ سِكِّينًا فحَزَّ بها يَدَهُ، فَما رَقَأَ الدَّمُ حتَّى ماتَ، قال اللَّه تعالى: بادرَني عَبدي بنفْسِهِ، حَرَّمتُ عليه الجَنَّة».
ربّاه! أيُّ عقابٍ ينتظرُ من يظنُّ أنَّ في قتلِ نفسه راحة! بل هو خلودٌ في العذاب، وليس هروبًا، بل مواجهةٌ أبديةٌ لنتائج هذا الفعل الشنيع. وهذا ليس تخويفًا بقدرِ ما هو نداءٌ للنجاة، وتحذيرٌ لمن يتيهُ في صحراءِ اليأس.
ولقد أدرك سلفنا الصالح هذهِ الحقيقة إدراكًا كاملًا، وتفقهوا في دينِ الله فصانوا أرواحهم وصانوا نفوس غيرهم. ولقد كانوا يرون في الصبرِ على البلاءِ مفتاح الفرج، وفي التوكلِ على الله زادًا للروح. يقولُ الإمام ابن القيم -رحمهُ الله- في وصفِ حال المؤمن:(المصائبُ ثلاثةٌ: مصيبةٌ في الدينِ، وهي أعظمُ المصائبِ، ومصيبةٌ في الدنيا، وهي أهونُ المصائبِ، ومصيبةٌ في النفسِ، وهي بينَ ذلكَ). فكيف يرى المرءُ أنَّ قتل النفس هو حلٌّ لمصيبةٍ في النفسِ أو الدنيا؟ وهو يقعُ بذلك في أعظمِ المصائبِ، وهي المصيبةُ في الدين؟!
ويُذكرُ عن عمر بن الخطاب -رضيَ اللهُ عنهُ- قولهُ: (ما أُبالي على أيِّ حالٍ أصبحتُ، على ما أُحبُّ أو على ما أُكرهُ، لأنّي لا أدري الخيرَ فيما أُحبُّ أو فيما أُكرهُ). هذا هو التسليمُ المطلقُ لقضاءِ الله، واليقينُ بأنَّ وراءَ كلِّ محنةٍ منحة، وأنَّ بعدَ العسرِ يسرًا.
فَيا مَن تُكابدونَ مرارةَ الحياة، ويا مَن تُصارعونَ ويلات النفس بجهادكم إيّاها، لا تيأسوا! إنَّ اليأس كفرٌ بنعمةِ الله ورحمته، وظنٌّ سيءٌ بالرحيمِ الودود. وتذكروا أنَّ الله أقربُ إلينا من حبلِ الوريد، يسمعُ أنين قلوبنا، ويرى ضعفنا، ولا يتركنا أبدًا.
تذكروا، أنَّ الحياةَ رحلةٌ، وليست وجهةً نهائية. فيها من العوائقِ ما يجعلنا أقوى، ومن الألمِ ما يصقلُ أرواحنا، ومن التحدياتِ ما يُظهرُ قدراتنا الكامنة. تيقّنوا أنَّ كلَّ كسرٍ يجبرهُ الله، وكلَّ ضيقٍ يأتي بعدهُ فرجٌ، ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾.
إنَّ هذه الدنيا ليست دارَ قرارٍ، بل هي معبرٌ إلى الآخرة. فكيف نختارُ أن نختمَ رحلتنا بالخسارةِ الأبديةِ؟ كيف نختارُ نيرانَ جهنم بدلًا من رحمةِ الرحمنِ التي وسعت كلَّ شيءٍ؟
مدوا أيديكم إلى الله، ارفعوا أكفَّ الضراعةِ إليهِ، اطلبوا العونَ منهُ وحدهُ، واجعلوا كتابه الحكيم رفيق دربكم ومساعيكم، ففيهِ الدواء والشفاء بقدرةِ الله ﷻ. الجؤوا إلى الأطباءِ النفسيين إن اضطرّ بكم الأمر، تحدثوا مع من تثقونَ بهم، ابحثوا عن بصيصِ الأمل في كلِّ زاوية. ولا تنعزلوا، لا تستسلموا لوساوسِ الشيطان. أنتم لستم وحدكم في هذا الألم، هناك من يحبكم ويهتمُّ لأمركم.
واعلموا أنَّ القوةَ الحقيقيةَ ليست في الهروبِ من الواقع، بل في مواجهتهِ بشجاعة، والبحث عن بصيصِ النور في أحلكِ الظروف. فالحياة تستحقُ أن تُعاشَ بكلِّ ما فيها من حلوها ومرّها؛ لأنها عطيةُ الرحمن، ومنحةُ الخلّاق. فلا تطفئوا شمعةَ أعماركم، فرُبما تحملُ لكم اللحظة القادِمة الفرج والفرح والجبر الذي لطالما انتظرتموه.