رحمة المُحِبّ

|

إنَّ قلب المُحِبّ ليس بوعاءٍ يحوي مشاعر جامدة، بل هو روضةٌ غنَّاء تتفتَّح فيها زهور الرحمة كلَّما داعبها نسيم الحبّ. فالمُحبُّ الذي اختار الهوى دربًا لروحه، يمتلكُ بين جوانحه ينبوعًا لا ينضب من الرأفة والرّحمة، يفيضُ سقيًا لمن استوطن شغاف قلبه وكُل روحه.

ورحمة المُحبّ ليست كباقي الرحمات؛ فليست هي التي يُمليها واجبٌ، أو تفرضها ضرورة، بل هي رحمةٌ تنبع من ذات الروح، تمتزج بقطراتِ المَحبّة في اللّٰه، فتسري في شرايين المحبوب كالماء الزُّلال الذي يروي ظمأ السنين. هي رحمةٌ تتجلى في أدقِّ التفاصيل، في لفتة العين التي لا يغيب عنها خاطر الحبيب، وفي انصات الأذن التي لا تشبع من حديثه وهمساته، وفي لمسة اليد التي تُطمئن الروح قبل الجسد.

وتلك الرحمة، هي التي تجعل المُحبّ يرى في مَن يُحبُّ كمالًا حتى في نقائصه، ويغضُّ الطرف عن زلَّاتِه، ويلتمس له الأعذار حتى قبل أن يتفوّهَ بها. هي لُبُّ العطاء غير المشروط، حيثُ يمنح المحبُّ كلَّ ما يملك من طيبةٍ ولينٍ وحنان لمحبوبهِ، ودون أن يرجو منهُ جزاءً أو شُكرًا، فجزاؤه يكمنُ في رؤيةِ السعادة ترتسمُ على مُحيّا من أحبَّ، وشكرُه يكمنُ في إحساسِه بأنَّه قد أضحى ملاذًا آمنًا لروحٍ باتت جزءًا منه.

فلا عجبَ إذن أن تكونَ رحمةُ المُحبّ بمَن يحبُّ وشاحًا من نورٍ يلفُّ وجوده، يضيءُ عتمة أيامهِ، ويجلو صدأ همومِه، ويورقُ بساتين أملِه. فلَهيَ وﷲ الحصنُ المنيعُ الذي يحتمي به المحبوبُ من قسوةِ الأيام، والدفءُ الذي يطردُ برد الوحدة، والأمان الذي يسكنُ فيه الفؤاد بعد طولِ اضطراب.

والمحبَّ الصادق -بما يحمله قلبهُ من رقةٍ مُتناهيةٍ ورحمةٍ فائضة- حاشاهُ أن يعرف القسوة طريقًا إلى من أحبّ، أو أن يسمح للجفاءِ أن يطرق باب قلبهِ فيهجُره. فالحبُّ الحقيقيُّ في اللّٰه، ليس مُجرد عاطفةٍ عابرةٍ أو هوًى زائل، بل هو سكنٌ ودفءٌ وأمان، بناءٌ شامخٌ تُرفع قواعدهُ على أركان اللين والعطف والاحتواء.

فكيف للمحبِّ أن يقسو وهو يرى في مَن أحبَّ روحًا تُشبهُ روحه، ونفسًا تُلامس جوهرَ كيانِه؟ إنَّ رقّةَ المُحبّ تُشبه نسيم الفجر العليل الذي يداعبُ الزهور دون أن يكسرها، وقطرات الندى التي تروي الأرض دون أن تُغرقها. هي تُترجَم إلى صبرٍ جميل، وعفوٍ عند المقدرة، والتماس الأعذار قبل اللوم. فالقلبُ الذي امتلأ بالحبِّ لا يجدُ مُتسعًا لشوائبِ الغلظة أو مرارة الجفاء.

بل إنَّ مجرد فكرة الهجران أو الجفاء بعيدةٌ كلَّ البعد عن طبيعة المُحبِّ الحقّ، فكيف لمن يرى في محبوبِه مرآةً لروحِه أن يُعرِضَ عنها، أو لمن يتنفس بوجودهِ أن يُباعد؟ المحبُّ لا يجد راحتهُ إلا في قُربِ مَن أحبّ، ولا يُدرك كمال وجودِه إلا في ظلِّ وصالِه. فالصدود والجفاء ليسا من سِمات الحبّ، بل هما من علامات ضعفِه أو انقضائِه.

ورقّةُ المُحبِّ ورحمتُه صمام الأمان الذي يمنعُ قلبَه من سلوك دروب القسوة والجفاء، وتُبقي على عهدِ الودِّ والوصل خالدًا بين القلوبِ المُتحابةِ، فـ “إنَّ المُحبّ بمَن يُحبّ رحيمُ”.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة