يا بني، اعلم -أكرمكَ الله ورفع قدركَ- أنني وإن كنتُ أرى فيكَ غدًا مُشرقًا، ومُستقبلًا وضيئًا، فإنّ لبُعد الهمةِ سبيلًا، ولِعلوّ القدر دليلًا، لا يبلغهما إلا ذو عقلٍ راجحٍ، ونفسٍ زكيةٍ، وهمّة طموحٍ لا يكلُّ ولا يملّ. وقد وجدتُ فيكَ من مخايل الرشاد ما يبعثُ على الأمل، ويزرعُ في الفؤادِ حبَّ الخيرِ لكَ، فآثرتُ أن أسطّرَ إليكَ من صميمِ قلبي هذه الوصايا، لا على سبيلِ الإلزام، بل على وجهِ التذكيرِ والنُصح، فالعاقل مَن اتعظَ بغيرِه، والأريب مَن استنارَ بنورِ الحكمة.
يا بني، اجعل كتاب الله -تباركَ وتعالى- لكَ رفيقًا مؤنسًا لا يفارقكَ، ودليلًا مُرشدًا لا يضلّكَ، ونورًا وهّاجًا لن ينطفئ. فوالله، ما تدبرَ مُتدبرٌ آيةً من آياتهِ إلا وجدَ فيها من المعاني اللطيفة، والحكم البليغة، ما يُدهش العقول، ويُبهر الأبصار. احفظهُ غيبًا، واتلُهُ جهرًا، وتدبّرهُ سرًا وعلنًا. فإنّ في حفظهِ رفعةً لروحكَ، ونورًا لقلبكَ، وصلاحًا لأمركَ كلّهِ. وكلما ازددتَ منهُ أخذًا، ازددتَ من الفضلِ حظًا، ومن الأجرِ نصيبًا. فاجعلهُ وِردَكَ الدائم، وصاحبَكَ الأمين، ورفيقكَ في خلوتكَ وجلوتكَ، ففيهِ صلاحُ دينكَ ودنياكَ.
واعلم يا بني أنَّ خيرَ قدوةٍ تُقتفى، وأقومَ سبيلٍ يُهتدى بهِ، هو هديُ سيّدِ الخلقِ وأشرفِ الأنبياءِ والمُرسلين، مُحمّدٍ ﷺ. فقد بعثَهُ اللّٰه رحمةً للعالمين، وحُجّةً على الخلقِ أجمعين. فاسلُك سبيلَهُ، واقتدِ بهديهِ، وتخلّق بأخلاقهِ الشريفة. فقد كان خُلُقُهُ القرآن، وسيرتهُ نورًا يُهتدى بهِ في ظلماتِ الفتن. كن صادقًا في قولكَ، أمينًا في فعلِكَ، كريمًا في عطائكَ، حليمًا في غضبكَ، رفيقًا بغيركَ، مُحسنًا إلى من أحسنَ إليكَ ومن أساء، ففي ذلك رضى ربّكَ، وقربٌ من نبيّكَ، ومحبةٌ لكَ في قلوبِ الخلق من حولكَ. فتأسَّ بسيرتهِ العطِرة، ففي اتباع سُنّتهِ ﷺ صلاح حالكَ، وهناء بالكَ، وحسن مآلكَ.
يا بني، لا تحقرنَّ من المعروفِ شيئًا، فربما كانَ عملًا يسيرًا في عينيكَ عظيمًا في ميزانِ حسناتكَ عند ربّكَ. كن مفتاحًا للخيرِ، مغلاقًا للشرِّ. ابذل جهدكَ في نفعِ الناس، وإغاثةِ الملهوف، ومواساةِ المكروب. فإنَّ خيرَ الناسِ أنفعُهم للناس. وتذكر أنَّ اليدَ التي تمتدُّ بالخيرِ لا تندم، والقلب الذي يُحسِن لا يُكسر، فاجعل نيتكَ خالصةً للهِ في كلِّ ما تقدمه، فجزاءُ الإحسانِ إحسانٌ مثلهُ بل وأحسَن، ويدُ الله فوق أيدي المُحسنين.
يا بني، إنما هذهِ ثلاث وصايا أودعتُها قلبكَ، وهي زادٌ لكَ في دُنياكَ، ذخرٌ لكَ في آخرتكَ، فإن شئتَ أخذتها عملًا بها، ربحتَ من خيرَي الدُنيا والآخرة، وإن شئتَ غير ذلك، فلا أقول إلّا: هداكَ اللّٰه وأصلحكَ يا ولدي…










