مجد الرّوح

|

يقول الرّافعي -رحمهُ الله-: (وتَعَلَّم الشعب مِن دفنِ شُهدائه كيف يستنبتُ الدّم فينبُت بهِ الحُرّيّة، وكيف يزرع الدّمع فيخرُج منهُ العَزم، وكيف يستثمرُ الحزن فيُثمر لهُ المَجد). وذاكَ كان الرّافعي، يرى في أعماق المآسي نورًا لا يخبو، وفي باطِن الجرح بذرة لا تموت. ومقولته هذه، ليست مُجرد حروف تُخَطّ لتاريخ الأُمم؛ بل هي مرآة لروحِ كل إنسان يتجرّع مُرّ الحياة، ويسعى ليصنع من غبارها كوكبًا، ولينحت من صخرها تمثالًا للعزيمة.

فأقول: فإن كان الشعب قد تعلّم مِن دماء شُهدائه كيف تولد الحُرية وتشرُق شمسها، فإننا، في واقعنا المرير هذا، نتعلّم كيف نستنبتُ جراحات الأرواح الغائرة، ومواجع القلوب الكليمة؛ لتنبت لنا صمودًا لا يلين، وحُرية داخلية لا تُقيّدها سلاسِل الظروف، ولا يحدّها جور الزمان. تلك هي حُرية الرّوح التي لا تُسلب، وإن سُلبت منها كل الأوطان. فكم من آهةٍ خرجت من الصدر لم تكن شكوى، بل كانت إعلانًا لرفض الانكسار!

وكما يزرع الشعب دموع الفقد لتُخرج لهُ العزم الصلب، فإن مشاعرنا الدفينة -تلك التي لا يُبصرها أحد إلا الله، ولا يحصيها عددٌ، من ألمٍ مكتومٍ وشوق يفتك بالضلوع، ويقين يتعاظم مع كل غياب-؛ هي البذور التي نُلقيها في تُربة الصبر، ونُسقيها من ماء التوكل. فمن كل قطرة دمعٍ لا ترى النور، ومن كل آهةٍ لا يسمعها بشر؛ ينبُت لنا عزمٌ لا يُثنى، ويقينٌ لا يتزعزع، وقوةٌ لا يعلم مدى اتساعها إلا من احتضنها في خلواته. هي قوة الاستغناء عن الضعف، والتحليق فوق سماء اليأس.

وإن كان الشعب يستثمر حزنه ليثمر مجدًا يُدوّن في صفحات التاريخ، فإننا في واقعنا المرير الذي يحيط بنا، حيث تطل الغربة من كل زاوية، ويصبح الانتظار رفيق الدروب، وتُجابه الروح مصاعبها وحيدة؛ نتعلّم كيف نستثمر هذا الحزن الكامن في صدورنا، ومرارة الأيام التي لا تزال تتوالى. لا ليُثمر لنا مجدًا منظورًا في أعين البشر، بل ليُثمر لنا مجدًا باطنيًا، رفعةً في الروح، وسموًا في الإيمان، وحكمةً تُضيء العقول، ويقينًا بأن كل وجعٍ هو طريق لعلو الدرجات في سُلم التجربة الإنسانية. هو ذاك المجد الذي يكمن في صمود القلب الذي لا يلين، وفي صدق الروح التي لا تخون، حتى وإن كان الوجود بأسرهِ يُجابهها.

تلك هي دروس الحياة الأشد قسوة، والأعمق أثرًا. هذه التي تُبرهن لنا أن القوة الحقيقية ليست في مُجابهة العواصف الظاهرة فحسب، بل في قدرة الروح على تحويل أعتى آلامها إلى ينابيع لا تنضب من الصبر، والعزم، واليقين. فسلامٌ على أرواح تعلّمت أن تُزهر في صحراء العناء، وأن تصنع من العدم كل الوجود.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة