بساطة

|

بساطة خواطر سائرة إلى الله

المُسنّون هم بركة الحياة وبهجتها؛ بل قوة من حيث أنهم ضعفاء، وركن متين إذا رُجّت البيوت والأرجاء، وسند إذا غاب النّصير وبلبلت الأهواء.
هكذا علّمنا أهلونا وخبرونا؛ فهؤلاء هم أصحاب الرأي السديد، وأهل الحكمة التي تقطر من أقوالهم وأفعالهم؛ فلا يملك أحدهم إلا أن يذعن لمقالتهم، ويأخذ بمشورتهم.

أذكر أني وأطفال القرية كنا نجالس بعض هؤلاء المسنين، فهذا جدي عيسى (هكذا كنا نناديه توقيراً له) شيخ مسن، ضعيف النظر، دائم التجول بالقرية، وكثيراً ما كنا نراه وسط زرع كثيف غطته السنابل الخضراء، فلا يُرى من بعيد إلا كقطعة متجولة وسط الحقل، تعلوه عمامته البيضاء، وتزينه لحيته التي زادته هيبة ووقاراً، وفي يده عكازته التي يتمايل بها ويمشي الهوينا. وما تكاد أعيننا تقع عليه حتى نسابق الريح إليه فرحاً وسروراً ومحبة.
وكم كانت سعادته بنا كبيرة؛ فلا نراه إلا استحال طفلاً مثلنا، يضاحكنا ويلاعبنا ثم يجود علينا من علمه ومعرفته.

كان جدي عيسى متقناً للغة الفرنسية؛ فقد عايش المستعمر الذي وطئت قدمه البلاد، وتعلم لغته. أذكر أنه كان يعلمنا العد والحساب باللغة الفرنسية، في كل مرة نلتقيه فيها، وقد تعلمت ذلك على يديه قبل أن أتعلمه من المدرسة.

لم يكن جدي عيسى وحده من نجالس، فهناك مسنون آخرون كانوا كلهم أجداداً لنا. يلاعبوننا ويضاحكوننا، وقد يطلبون منا ماءً أو أكلاً فنحضره لهم.

وقد حدث لي مع أحدهم موقفاً ما زال محفوراً في ذاكرتي كأنّه وليد اللّحظة.

في يوم شتوي شديد البرودة، وبينما أنا متوجهة إلى بيت جدتي وسط القرية؛ إذ التقيت في طريقي وعند منبع الماء بذلك الشيخ الطاعن في السن، وقد احدودب ظهره، ومالت رقبته، ودبّ الضعف في جسده؛ وما إن رآني حتى انفرجت أسارير وجهه، وبادرني بطلبه الذي ثقل عليّ يومها، ولم يثقلني شيء من هؤلاء المسنين قبل ذلك.
لقد أعطاني منديله الذي يتمخّط فيه، وطلب مني أن أغسله وأزيل عنه ما قد دنسه تحت صنبور الماء.
نظرت إلى المنديل وقد عافته نفسي، واشمأزت منه عيني، إلا أنه كبر علي أن أرده فأكسر خاطره، وهو شيخ كبير. ثم ما لبثت حتى ذكرت نظر الله إلي.
فهل أريه خيرا مني وأوثر رضاه؟ أم أني أتبع هواي فلا أخالف نفسي فيما كَرِهَت؟
فما وجدتُني إلا آخذ المنديل منه وأغسله بالماء البارد بيداي حتى زال عنه درنه، ثم ناولته إياه.
أخذ الشيخ مني المنديل وراح في سبيله متمتماً بكلمات شكر ودعوات، ومضيت في سبيلي وقد غمرتني سعادة عجيبة، وفرحة قذفها الله في قلبي على حين غرة.

ما أجمل تلك الأيام وما أكثر السعادة التي كنا نحظى بها، رغم بساطة العيش وقلة مؤنه. وكأن القرية كلها عائلة واحدة، يُوَقَّرُ كبيرها ويُرحَم صغيرها، وكل الأطفال أبناء لكل الآباء؛ يتساوون في التربية والزجر عند الخطأ.

أما اليوم؛ فقد ذهبت البساطة، وحلت محلها العقد. فكل يسير فهو عسير، وكل عسير فهو أعسر منه. كثرت المؤن وصار كل شيء متاحاً؛ لكن الأرواح حزينة مكلومة قابعة في سجونها، قد أتعسوها من حيث أرادوا إسعادها. وقد أخطأوا السبيل وربّ الكعبة.

النّاس للنّاس مادام الحياة بهـــــــــــــــــم
والسّعد لا شكّ تارات وهبَّـــــــــــــــــــــــــــــات
وأفضل النّاس ما بين الورى رجلٌ
تُقضى على يده للنّاس حاجــــــــــــــات
لا تَمنعنّ يدَ المعروف عن أحـــــــــــــــــدٍ
ما دمت مقتدرا فالسّعد تــــــــــــــــــاراتُ
واشكر فضائل صُنع الله إذ جُعِلت
إليك لا لك عند النّاس حاجـــــــــــــاتُ
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم
وعاش قومٌ وهم في النّاس أمواتُ

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة