لا يتمكن العشق إلا مع واقف جامد

|

نظرت فيما تكلم به الحكماء في العشق وأسبابه وأدويته، وصنفت في ذلك كتابًا سميته بـ «ذم الهوى»، وذكرت فيه عن الحكماء أنهم قالوا: سبب العشق حركة نفس فارغة،

وأنهم اختلفوا فقال قوم منهم: لا يعرض العشق إلا لظراف الناس، وقال آخرون: بل لأهل الغفلة منهم عن تأمل الحقائق.

إلا أنه خطر لي بعد ذلك مَعْنًى عجيب، أشرحه ها هنا، وهو أنه لا يتمكن العشق إلا مع واقف جامد، فأما أرباب صعود الهمم، فإنها كلما تخايلت ما توجبه المحبة، فلاحت عيوبه لها -إما بالفكر فيه، أو بالمخالطة له-، تسلت أنفسهم، وتعلقت بمطلوب آخر.

فلا يقف على درجة العشق، الموجب للتمسك بتلك الصورة، العامي عن عيوبها، إلا جامد واقف.

وأما أرباب الأنفة من النقائص؛ فإنهم أبدًا في الترقي، لا يصدهم صاد، فإذا علقت الطباع محبة شخص، لم يبلغوا مرتبة العشق المستأثر، بل ربما مالوا ميلًا شديدًا،

إما في البداية لقلة التفكير، أو لقلة المخالطة والاطلاع على العيوب، وإما لتشبث بعض الخلال الممدوحة بالنفوس من جهة مناسبة وقعت بين الشخصين، كالظريف مع الظريف، والفطن مع الفطن، فيوجب ذلك المحبة،

فأما العشق، فلا، فهم أبدًا في السير، فلا توقف، وإبل الطبع تتبع حادي الفهم، فإن للطبع متعلقًا لا تجده في الدنيا؛ لأنه يروم ما لا يصح وجوده من الكمال في الأشخاص، فإذا تلمح عيوبها نفر.

وأما متعلق القلوب من محبة الخالق البارئ، فهو مانع لها من الوقوف مع سواه، وإن كانت محبته لا تجانس محبة المخلوقين، غير أن أرباب المعرفة، قد شغلهم حبة عن حب غيره، وصارت الطباع مستغرقة لقوة معرفة القلوب ومحبتها.

ولقد روي عن بعض فقراء الزهاد: أنه مر بامرأة، فأعجبته، فخطبها إلى أبيها، فزوجه، وجاء به إلى المنزل، وألبسه غير خلقانه، فلما جن الليل، صاح الفقير: ثيابي! ثيابي! فقدت ما كنت أجده!
فهذه عثرة في طريق هذا الفقير دلته على أنه منحرف عن الجادة.

وإنما تعتري هذه الحالات أرباب المعرفة بالله، وأهل الأنفة من الرذائل.

وقد قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة، فيتذكر مثانتها، ومثال هذه الحال أن العقل يغيب عند استحلاء تناول المشتهى من الطعام عن التفكير في تقلبه في الفم، وبلعه، ويذهل عند الجماع عن ملاقاة القاذورات، لقوة غلبة الشهوة، وينسى عند بلع الرضاب استحالته عن الغذاء.

وفي تغطية تلك الأحوال مصالح إلا أن أرباب اليقظة يعتريهم هذا الإحساس من غير طلب له في غالب أحوالهم، فينغص عليهم لذيذ العيش، ويوجب الأنفة من رذالة الهوى.

وعلى قدر النظر في العواقب يخف العشق عن قلب العاشق، وعلى قدر جمود الذهن يقوى القلق.

ومجموع ما أردت شرحه: أن طباع المتيقظين تترقى، فلا تقف مع شخص مستحسن، وسبب ترقيها التفكير في نقص ذلك الشخص وعيوبه، أو في طلب ما هو أهم منه، وقلوب العارفين تترقى إلى معروفها فتعتبر في معبر الاعتبار.

فأما أهل الغفلة، فجمودهم في الحالتين، وغفلتهم عن المقامين، يوجب أسرهم، وقسرهم، وحيرتهم.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة