كل يومٌ نسمع ونرى حوادث سير مُروّعة، واليوم الجيّد في عُرف المُرور، هو الذي حدث فيه نسبة أقل من الحوادث. ألقِ نظرة على الإحصائيات في المستشفيات؛ سترى نسبة كبيرة من المُصابين والموتى من الحوادث.
كنتُ مسبقاً عندما أقلّب الفيديوهات وأَرى الأشلاء؛ أقول في نفسي: (مستحيل أن أرى شخصاً يقود سيارة في الغد، أو إذا رأيت؛ أظنّهم سيخففون السرعة ويفكروا ألف مرة في المنعطفات وتقاطع الطرق)؛ لكن أتفاجأ في اليوم التالي بالسرعة الجنونية نفسها، والطيش والإهمال نفسه.
ولم أسمع أحداً يقول: (يجب أن أبتعد عن الآليات ولا استعملها لأنها طريق للموت)؛ بل يُقال: (ليست الدراجات النارية دائماً والسيارات سبب الموت؛ بل قضاء وقدر يا أخي! ثم كيف سننتقل من مكان لمكان ونحصل رزقنا؟).
لا تذهب بعيداً. عُلب الدواء التي تتناولها، فقط ألقِ نظرة للآثار الجانبية سيشيب لها الرأس (هلوسة، جلطة، زهايمر….إلخ)، ورغم ذلك؟ نتناولها.
مفارقة عجيبة!
لماذا لا ننظر إلى أن الجهاد الحقّ طريق للنصر، دواء الأمة المريضة، ومتاجرة مع الله، وبالإخلاص لله وحده يكون ضمان الدار الآخرة والانتقال إلى دار الخلود (فحيّ على جنات عدنٍ)؟ لماذا لا يُقال قضاء وقدر؟
عندما يدعو داعٍ للجهاد؛ ترتجف القلوب وتقشعر الأبدان، وأول ما تنطق الألسن: (لا أريد أن أموت الآن، يوجد خلفي أولاد، لا أريد أن تُبتَر قدمي، لا زلت شاباً).
لن يموت أحد حتى يستوفي أجله ورزقه كاملاً. اطمئن، لن يأخذ أحدٌ ما قُدِّر لك، ما ستشربه من كأس الحياة؛ لن تغرغر أنفاسك قبل أن تشربها كلها بحلاوتها وعلقمها.
إن شئت، اسأل أهلَ القُرى التي اعتادت القَصف؛ سيقولون لك: (يا ابني اللي إله عمر ما بتقتله شدّة). كم مِن مُرابط على الجبهات حَضر عزاء مواطن عادي انقضى أجله ونالت منه الجلطة الدمويّة في قعر بيته؟
عندما تكون هذه الآية حاضرة في القلب؛ لن يخاف أحد من الموت، ولن يهرب منه: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة}.
بل وجب علينا أن نتذكر: (إن ترك الجهاد والقعود عنه، أسباب هلاك الأمة؛ لأنه يؤدي إلى ضعفها، وطمع العدو فيها) [المختصر في التفسير].
(ما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل؛ فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما يتطلب منها كفاح الأعداء) [في ظلال القرآن].
في كلام بديعٍ للشيخ محمد الغزالي: (لا قيمة للإنسان إلا إذا آمن بربه ودينه، ولا قيمة لهذا الإيمان إلا إذا أرخص الإنسان في سبيله النفس والمال، وقد بين لنا القرآن الكريم أن الرجل قد يحب أن يعيش آمناً في سربه، وادعاً بين ذويه وأهله، سعيدًا في تجارته، أو مطمئناً في وظيفته، مستقراً فى بيته ومستريحاً بين أولاده وزوجته. بيد أنه إذا دعا الداعي إلى الحرب وقرعت الآذان صيحات الجهاد فيجب أن ينسى الإنسان هذا كله، وأن يذهل عنه فلا يفكر إلا في نصرة ربه وحماية دينه، وإنقاذ أهله ووطنه؛ وإلا فإن الإسلام منه بريء:
{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَاد في سبيله فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بأمره واللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}،
والأمة التي تستثقل أعباء الكفاح، وتتضايق من مطالب الجهاد إنما تحفر لنفسها قبرها، وتكتب على بنيها ذلاً لا ينتهى آخر الدهر).
يسير المؤمن بتؤدة، يحمله إيمانه لتصديق وعد الله، تصديقاً تاماً لا تشوبه ذرة شك. وكأني به يسمع صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فاصبروا حتى تلقوني عند الحوض، والموعد الجنة”. يطلّق الدنيا طلاقاً بائناً.
في الليل، دويّ كدوي النحل يقرأ القرآن، وفي النهار أسد ينقضّ وهو رابضُ. يردد في سرّه، ثم يتصاعد الصوت تدريجياً، هاتِفاً: (لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار).