القرآن، معين نبعٍ صافٍ يروي الروحَ ويُنعشُ القلب. ففي لحظةِ خشوعٍ وابتهال، حيثُ القلبُ مُعلّقٌ بالسماء، والجسد رابضٌ على الأرض؛ سيهمسُ لنا ببشارةٍ تُعيدُ تشكيل ملامحِ اليقين.
تُرى، هل أدركنا شُعور زَكريا -عليهِ السّلام- وهو يغتسلُ بالنّورِ الإلهيّ؟ تخيّلوا قلبًا شيخًا أنهكهُ الانتظار، وامرأةً طال بها العُقمُ، فإذا بالبُشرى تهبطُ كالغيثِ على أرضٍ جدباء، واللّٰه يُبشّره بغلامٍ اسمهُ يحيىٰ، يقولُ ﷻ: لم نجعَل لهُ مِن قبل سَميّا!
يا لعظمةِ هذا القول! اسمٌ لم يُسبق إليهِ الوجود، وكأنّ هذا الغلام هبةٌ فريدة، نفحةٌ من الجَنّة. فيرتدُّ صوتُ العبدِ مُستعجبًا، مُستسلمًا لعظمةِ القدرة: ربّي، أنّى يكونُ لي غُلام، وكانت اِمرأتي عاقرًا، وقد بلغتُ مِن الكِبر عِتيا؟
سؤالٌ ينمُّ عن دهشةِ العقلِ أمامَ تجلّي الإرادة الإلهيّة. فيأتي الجوابُ بلسمًا شافيًا، يُعيدُ ترتيبَ الأولويات ويُذكّرُ بقدرةِ الخالقِ التي لا يُعجزها شيء: كذلكَ هو عليَّ هيّن، وقد خلقتكَ مِن قبلُ ولم تكُ شَيئا!
يا لهُ من تذكيرٍ عميقٍ بأصلِ الوجودِ وفنائهِ! فكما خُلقتَ من عدم، فكذلكَ هذا الأمرُ الذي تراهُ مُستحيلًا هونٌ يسيرٌ على من بيدهِ ملكوتُ كلِّ شيء.
ثمّ ينتقلُ بنا النصُّ القرآني برفقٍ إلى مشهدٍ آخرَ من مشاهدِ التجليّ الإلهيّ، إلى روحٍ طاهرةٍ اصطفاها اللهُ واختارها، شُعور البتول العذراء -عليها أزكى السّلام-، وهو يتمازجُ فيهِ الخوفُ والدهشةُ والإيمان!
بشرى تأتيها وهي في خلوتها، تُعلنُ عن ميلادِ نبيٍّ يحملُ نورَ الهِداية، ويُصلح دين قومهِ. تقولُ مَريَم -عليها السّلام-: أنّى يكونُ لي غُلام! ولم يمسَسني بشرٌ، ولم أكُ بغيّا؟
سؤالٌ عفيفٌ، ينبعُ من طُهرِ السريرةِ واستبعادِ المألوف. فيأتي الجوابُ مُطمئنًا، يُرسّخُ الإيمانَ بالقوةِ القاهرة: كذلكِ هو عليَّ هيّن!
نفسُ الكلماتِ التي طمأنت قلبَ زكريا -عليهِ السّلام- تُضيءُ الآنَ عتمةَ استغرابِ مريم، لتُعلنَ أنَّ قدرةَ اللهِ فوقَ كلِّ تصوّر.
ثمّ يزدادُ المشهد رقّةً وحنانًا، وكأنّ الله يُرسلُ لمريم نسمةً باردةً تُريحُ روعها، فيقولُ سُبحانهُ لمَريم -عليها السّلام- وقت شدّتها: ألَّا تحزني…
يا لهُ من قولٍ يُبلسمُ الجراح! نَهيٌ عن الحزنِ في أوجِ الكربِ، وكأنّ اللهَ يُريدُ أن يُعلّمَنا أنَّ الفرجَ قريبٌ حتى في أشدِّ اللحظات. ثُمَّ بحنانٍ من لدنّه يُربّت على قلبِ العذراء الشّريفة: كُلي واشرَبي، وقرِّي عَينا…
يا لهُ من تصويرٍ بديعٍ للرعايةِ الإلهيّة! بعد البُشرى تأتي الطمأنينة، وبعد الخوفِ يأتي الأمان، وكأنّ الله يُخاطبُ الروحَ بلغةٍ لا تفهمها إلا القلوبُ الصافية!
قرِّي عينًا يا مَريَم، قرِّي عينًا! وقرّ عينًا يا زَكريا… هذهِ هيَ المواساة الإلهيّة، وهذا هو لطف الرحمٰن، وهذا هو كرمهُ وعطفه علىٰ خلقهِ وعبادهِ حين يأتي. وهذهِ هي الخلاصةٍ المُضيئة، أنّ هذهِ القصصُ ليست مجردَ حكاياتٍ عابرة؛ بل هيَ نافذةٌ نطلُّ منها على رحمةِ الله التي تسعُ كلَّ شيء، وعطفهِ الذي يغدقُ على عبادهِ في أحلكِ الظروف.
اللهمَّ شُعور زَكريا ومَريَم -عليهما السّلام-، دُعاءٌ يترددُ صداهُ في أعماقِ الروح، أمنيةٌ بالسكينةِ والاطمئنانِ كالّتي كانت تغمرُ قلبيهما الطاهرين. وشوقٌ إلى تلكَ المشاعرِ الفيّاضةِ بالإيمانِ واليقينِ والرضا بقضاءِ اللهِ وقدرهِ. وهذا ما يختزلُ كلَّ الأماني.