لطالما كانت مسألة الاختلاط بين الجنسين من القضايا الحساسة الشائكة التي تشكّل بؤرة توتر حادة في مجتمعاتنا العربية على الوجه الخاص والإسلامية على الوجه العام، فتُثير فينا مشاعر مُتباينة.
فبين رغبة صادقة في الحفاظ على قيمنا وتقاليدنا الأصيلة التي رسمت لنا لعقود طويلة مساحات مُحددة للتفاعلات الاجتماعية، وبين رياح التغيير القادمة من الغرب والتي تُنادي بانفتاح وتيسير التواصل بين الرجل والمرأة في تفاصيل حياتنا اليومية، يسعى مجتمعنا الإسلامي، في خضم هذا الجدل الواسع، وفي قلب هذا الصراع المستمر، إلى الحفاظ وصون هويته الإسلامية العريقة في وجه تيارات العولمة الغربية.
لذا؛ فإن أبناء مجتمعنا الإسلامي ينقسم حيال قضية الاختلاط بين مؤيد يُرى فيه ضرورة، ومعارض يخشى مغبّته. فالمعارضون يتمسكون برفضٍ نابع عن قناعة راسخة، يرون فيه مدخلًا واسعًا للفتنة والانزلاق نحو ما قد لا يُحمد عقباه، ويرون بأنه يُهدد الضوابط الشرعية والأخلاقية التي بُني عليها صرح مجتمعنا المُحافظ لحمايته من براثن الانحراف. فيستشهدون بنصوص دينية يرونها تُوجّه نحو إبعاد النساء عن الرجال في أغلب التفاعلات الاجتماعية، مُشددين على أهمية صيانة الحياء والعفة، والابتعاد عن كل ما قد يُوقد جذوة الفتنة في المجتمع. فتُخالجهم مخاوف من أن يؤدي التساهل في الاختلاط إلى اهتزاز الروابط الأسرية وقيمها النبيلة؛ مما قد يُؤثر على هويتنا الثقافية الفريدة التي لطالما منحت مجتمعاتنا العربية والإسلامية تميزها وخصوصيتها الفريدة من نوعها.
في المقابل، يرى المؤيدون لتنظيم الاختلاط بضوابط تحفظ العفاف أنه حاجة مُلحة تفرضها طبيعة حياتنا المعاصرة بتعقيداتها وتشابكاتها؛ وذلك لمواكبة متطلبات العصر الشاملة واللحاق بركب التقدم في شتى ميادين الحياة. فهم يرون أن الفصل التام بين الجنسين قد يُعيق التفاعل الإنساني الطبيعي بين أفراد المجتمع، ويحرمه من الاستفادة الكاملة من إمكانيات كل من الرجل والمرأة في ساحات العلم والعمل والثقافة وديمومة الإبداع المُستمر!
ولكن؛ يبقى السؤال الذي يتردد في أذهاننا: كيف لنا أن نوفّق بين أصالتنا العريقة ومستجدات العصر المتسارعة في هذه القضية التي لا تزال تُشعل نقاشات حادة في كل بيت ومجلس؟ وما هو الاختلاط في ميزان شرعنا الحنيف يا ترى؟
قد يختلط مفهوم الاختلاط في ديننا الحنيف على البعض، فيظنونه مجرد وجود الرجال والنساء في مكان واحد! لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير؛ فالاختلاط الذي نهانا عنه الشرع ليس هو الاجتماع بحد ذاته؛ بل هو الاجتماع الذي تغيب عنه ضوابطنا الشرعية السمحة، ويُخشى منه الوقوع في الفتنة والمُحرّمات. فالإسلام لم يمنع المرأة من الخروج لقضاء حاجاتها أو طلب العلم أو العمل إذا دعت الضرورة لذلك، ولكنه وضع سياجًا من الآداب والأحكام التي تحفظ لمجتمعنا طهارته وعفّته، وتحمي أفراده من دواعي الهوى. وهذه الضوابط تشمل: غض البصر من الطرفين، والالتزام باللباس الشرعي الساتر للمرأة، وتجنّب الخلوة، والكلام بالمعروف دون إثارة أو خضوع، والبعد عن المزاح والملامسة.
فحين يجتمع الرجال والنساء مع الالتزام بهذه الحدود الوقائية؛ يصبح الاجتماع وسيلة لقضاء المصالح المشتركة دون الوقوع في المحظور. أما حين يغيب هذا الالتزام، ويُصبح الاجتماع مرتعًا للنظرات المُحرّمة والكلمات التي قد تُثير الريبة والسلوكيات التي تُوقظ الشهوات؛ هنا يكمن الاختلاط المذموم الذي حذرنا منه شرعنا الحنيف وحرّمه.
إن نظرة الإسلام للاختلاط ليست نظرة منع مطلق؛ بل هي نظرة تنظيم وحماية، هي دعوة إلى مجتمع طاهر عفيف، يسعى أفراده إلى التعاون على الخير مع الحفاظ على حدود الله. فالأصل ليس في منع الاختلاط لذاته؛ بل في سدّ كل طريق قد يُفضي إلى مفاسد تُعيق صفاء مجتمعنا.
لذا؛ يجب أن نُدرك أن جوهر المسألة ليس في مجرد وجود الرجل والمرأة في نفس المكان؛ بل في كيفية هذا الوجود، وما يرافقه من سلوكيات والتزامات بأحكام الشرع. فالاختلاط المنضبط قد يكون حاجة تقتضيها مسيرة الحياة؛ أما الاختلاط الذي يفلت من كل قيد فهو باب للفتنة يجب سدّه بكل الوسائل المتاحة والمباحة، خاصة في عصرنا الحالي الذي تفاقم فيه الاختلاط غير المنضبط، وانتشرت فيه المفاسد حتى في الطرقات.
وفي ظل هذا الواقع الذي نعيشه، والذي تجاوز فيه الاختلاط حدود الضرورة ليُصبح ضربًا من الترف والتفلّت أكثر من كونه حاجة مُلحة، يكمن الحل الأكثر واقعية في أن ينهض علماؤنا ومفكرونا بمسؤولية وضع ضوابط واضحة وحازمة ومُستدامة، تستند إلى أصول شرعية راسخة. وهذه الضوابط يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار وبجدية لتُراعى بدقة، بهدف بناء مجتمع إسلامي سليم مُعافى من كل ما يُعيقه عن الرقي والازدهار. وقد يتطلب ذلك سن قوانين حازمة تُلزم المخالفين بالخضوع للعقوبات الشرعية الرادعة إن لزم الأمر.