يقولون: (ليس الطريق لمن سبق، إنّما الطريق لمن صدق). لكن؛ نحنُ بطبيعتنا البشرية، نميلُ أحيانًا في خضم رحلتنا في هذه الحياة، إلى التحديق في آثار من سبقونا، نتتبع خطاهم وربما نتوهّم أن الطريق مُعبّدٌ فقط لمن خطا أولًا. نُلقي بنظرات الإعجاب والتقدير على من وصلوا قبلنا، وقد يخالجنا شعور بأن السبق الزمني هو وحده جواز المرور نحو النجاح والتحقيق.
لكن؛ ألا يحمل هذا التصور بعض القصور؟ ألا يُغفل قوة كامنة في دواخلنا، ألا وهي “الصدق”؟ ليس المقصود هنا مجرد صدق اللسان؛ بل هو صدق أعمق وأشمل، صدق النوايا، وصدق العزيمة، وصدق الإيمان بالهدف كذلك. فالطريق الحقيقي ليس حكرًا على من خطا أولًا؛ بل هو مُشرّعٌ بفيض من النور لمن أضاء قلبه بصدق سعيه. قد يسبقك الكثيرون بأجسادهم، لكن وحدهم من يصدقون في شغفهم، ويثبتون في عزائمهم، ويُخلصون في خطواتهم، هم من يمتلكون حقًا مفاتيح الوصول.
تخيلوا معي، زهرة بريّة تنبت في صخرة قاسية. لم يسبقها في هذا المكان نبات آخر، لكن إصرار بذرتها الصادقة على الحياة، وتجذّرها العميق في التربة، هو ما منحها القوة لتشق طريقها نحو النور والأزهار.
كذلك هي أرواحنا؛ حين تصدق في طلبها، وتُخلص في سعيها، وتؤمن بقدرتها على تحقيق ما تصبو إليه؛ فإنها تجد في أعماقها قوة دافعة تُعينها على تخطي الصعاب وتجاوز العقبات. قد تتعثر الخطى أحيانًا، وقد تشتد الرياح، لكن القلب الصادق يظل مُتّجهًا نحو هدفه بثبات ويقين.
إنها دعوة لنا جميعًا، أن ننظر إلى داخلنا بدلًا من أن ننشغل بمن سبق. أن نُفتش عن ذلك الصدق الدفين في أعماقنا ونُطلقه ليُنير لنا دروبنا. أن نؤمن بأن لكل واحد منا بصمته الفريدة ورحلته الخاصة، وأن السبق الحقيقي ليس سبق الأجساد؛ بل هو سبق القلوب الصادقة التي لا تكل ولا تمِل حتى تبلغ مرادها.
فلتصدق عزائمنا، ولتصفُ نوايانا، ولننطلق في دروب الحياة بقلوب مُفعمة بالإيمان والأمل، واثقين بأن الطريق سيُفتح لنا بصدق سعينا، لا بمجرد سبق غيرنا. فالأثر الأبقى والوصول الأجمل هو لمن صدق في رحلته، وثابر في طريقه، حتى تلامس روحه شغف الوصول، ذاك الّذي كان شعارهُ: “لا أَبرَحُ حتَّى أَبلُغ”؛ فبَلغ!