في محراب الحب

الحب، ليس مجرد كلمة تُقال، ولا مجرد قصة تُروى؛ بل هو شعور يسكن أعماق الروح، ويُضيء عتمة الدرب، ويجعل القلب يُزهر رغم قسوة الظروف. هو الأمان في غربة الأوطان، ومصدر الدفء في الليلٍ القارس، والنور الذي يهدي التائهين.

الحب، أن نرى العالم بعينين مُختلفتين، أعذب وأجمل مما هو عليه. أن نشعُر بقوة خفية تسري في أوصالنا، تدفعنا للعطاء بلا مُقابل، وللتضحية بلا حساب. هو أن نشتاق لصوت مَن غاب عنا، ونفتقد لمسة يد من نُحب، ونحنّ لعينين تسكنان ذاكرتنا. هو أن نغفر الزلة بروحٍ سمحة، ونتجاوز الخطأ بنفسٍ رضيّة، ونبقى مُتمسّكين بالودّ الأصيل رغم الجراح.

الحب قد يكون فرحًا يُغرد في الصدر، وقد يكون دمعة تترقرق في العيون، ولكنه في كلتا الحالتين، قوة سامية تعطي للحياة معنًى أجمل، وللروح سموًا أرفع وأنبل.

أما الشوق؛ فهو تلك الريح الهادئة التي تهب على القلب فتحرّك سواكنه، وتذكرهُ بأيام خلت، وبوجوه غابت، وبأماكن اشتاقت لخُطى المحبوب. هو ذاك الصوت الخفي الذي يهمس في أذن الوجدان، فيستعيد صدى ضحكات كانت قد انطفأت، وهمسات كانت قد تلاشت، ونظرات استقرت في عمق الذاكرة.

الشوق ليس مجرد حنينٍ عابر؛ بل هو نار صامتة تستعرّ في الداخل، تذيب جليد البعد، وتحول الليالي إلى ساعات طويلة مثقلة بالذكريات. هو اليد الخفية التي تمتد إلى البعيد، تطلب قربًا مستحيلًا، وتبحث عن طيف توارى خلف حجب الغياب. قد يكون دمعة محتبسة في العين، أو أنّةً مكتومة في الصدر، أو خطوة تائهة تسير بلا وجهةٍ في دروب الحنين.

ورغم لوعته ووجعه؛ فإنه يحمل في طياته بقايا دفء، وأثر حُب، وبصيص أمل بعودة الزمن الجميل، أو لقاء مُرتقب. فهو الخيط الرفيع الذي يربط القلب بالماضي، ويذكّر الروح بما كان، ويوقد فيها شعلة الرجاء بما قد يكون.

الحب والشوق، وجهان لعملةٍ واحدة، تلك العملة الثمينة التي نكتنزها في خزائن قلوبنا، فالحب بذرة الشوق، والشوق ثمرة هذا الحب. كلاهما يستوطنان الروح ويُحرّكانها، وكلاهما تجمعهما وشائج عميقة في القلبِ لا تنفصم. كلاهما يختاران الروح مسكنًا لهما، يتغلغلان في ثناياها ليُعيدا تشكيل عالمنا الداخلي بألوان زاهية وأحاسيس عميقة. إنهما القوة الدافعة التي تُحيي القلب، وتُنبضه بالحياة، وتجعله قادرًا على الشعور بالدفء. فقلبٌ لا يعرف الحُب كبستانٍ قاحل لا تُزهر فيه الأمنيات.

فالحب، بتلك النبضة الأولى الرقيقة التي تُلامس أعماقنا، هو البذرة الطاهرة التي تُنبت في تربة الروح شوقًا دائمًا للقرب والوصال، وهو ذاك اللهيب الخفي الذي يسكنها، ويُحركها بلطف حينًا وبعنف أحيانًا، ويدفعنا نحو من نُحب بلهفة ورحمة. هو ليس مجرد عاطفة عابرة؛ بل هو حالة من الوجود، شعور عميق بالجزء الآخر الذي يُكمّلنا، وتوق دائم للاتحاد والاحتواء. إنه اللغة السرية التي تتحدث بها الأرواح، والجسر الخفي الذي يربط بين القلوب وإن تناءت المسافات.

ويا لجماله لو كان في ﷲ ولله ومِن ﷲ وإلى ﷲ، فيهِ ولهُ ومنهُ وإليه سبحانه. فالحُبّ في الله يكون أسمى أنواع الحُبّ وأكثرها ديمومة، وهو الذي يُقرّبنا إليه زلفى، وهو الأساس الذي تقوم عليه أسمى العلاقات الإنسانية وأكثرها بركة.

وفي إطار العلاقات الإنسانية، يُعلي الإسلام من شأن الحُب القائم على المودة والرحمة بين الزوجين، ويجعله أساسًا راسخًا لبناء أسرة مُسلمة سعيدة ومستقرة، تنعمُ بالسكينة والوئام. يقول الله تعالى: ﴿وَمِن آياتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزواجًا لِتَسكُنوا إِلَيها وَجَعَلَ بَينَكُم مَوَدَّةً وَرَحمَةً إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرونَ﴾، فالمودة والرحمة، هما الركيزتان اللتان يقوم عليهما هذا الرباط المُقدّس، وهما تعبير عن الحُب العملي الذي يتجلى في حسن العشرة والتفاهم والاحترام المُتبادل.

إن الحب في الإسلام ليس مجرد عاطفة جامحة؛ بل هو شعور مُنضبط بقيم وأخلاق، يهدف إلى بناء علاقات قوية ومتينة تُرضي الله سبحانه وتعالى، وتُسعد قلوب عباده. هو نور يضيء دروبنا، ورحمة تغمر حياتنا، وذكرى دافئة تسكن أرواحنا، وتُقربنا من خالقنا. فليزرع الله في قلوبنا حبًا يرضيه، وحبًا ينفعنا وينفع من حولنا.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة