ولو أعجبك كثرة الخبيث

كانت تتساءل كثيراً وهي ترى من حولها في عصيانهم وذنوبهم يعمهون: هل يا تُرى كل هؤلاء منحرفون متعدون لحدود الله؟ أيُعقل أن تكون كل تلك النفوس على باطل وأكون أنا وحدي على الحق؟ هل هم كثرة خبيثة؟

كثيراً ما تحدثنا أنفسنا بمثل هذي الخواطر والأفكار؛ لتصدنا عن الالتزام بشرائع الله وتطبيقها على الوجه الذي يرضاه الله، ولتجد لها سبيلاً للتخفف والتخلص من شعور الغربة بين من تركوا الدين وأوامره وارتكبوا نهيه. فهل يا ترى كانت الكثرة يوماً دليلاً أو مقياساً للحق؛ أم أن الأمر في مقياس الشرع مختلف تماماً؟

إن للحق مقياساً آخر!

لم يكن الحق يوماً حِكراً على الأعداد الغفيرة، ولا وسام شرف على صدور أهلها بها يقبل منهم ولا يُرد عليهم لغلبتهم وكثرة سوادهم وعلو أصواتهم، فحملة الدين وأهل التقى والصلاح، القائمين بأمر الله والمقيمين شرعه في أرضه كانوا قلة قليلة على مر التاريخ. فها هم أتباع الأنبياء كانوا قليلي العدد مباركي الأثر بالحق الذي هم عليه وبالنور السماوي الذي يسيرون به، فلم ينجُ مع نوح -عليه السلام- غير بيت من المسلمين، ولم يؤمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئه أن يفتنهم! وإن النبي ليأتي يوم القيامة ومعه الرَّجلُ والرجلانِ، والنبيَّ وليس معه أحدٌ! ولم يكن ذلك قدحاً في الدعوة أبداً؛ فالحق لثقله لا تخضع له سوى النفوس الطيبة العامرة بالإيمان، فهم من علِم الله فيها خيراً فأسمعهم، وإن كانوا قليلٌ مستضعفون في الأرض يتخطفهم الناس؛ فهم غالبون لثباتهم على الحق الذي هم عليه ولسيرهم خلافاً للقطيع الضال.

هذا وإن في الكثرة المنحرفة غالباً ضلال واتباع للشيطان وهوى النفس بعيداً عن الشرع، مصداقاً لقوله عز وجل في كتابه على لسان الشيطان الرجيم حين قال: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62]، فتمعن في “إلا قليلاً”! وكذلك قوله عز وجل: {ولقد صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْـمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]. فالأقلية الممدوحة هي القوية بإيمانها التي تقاوم الشيطان وإغواءاته.

وقد أشار الحبيب صلوات الله وسلامه عليه لقلة أصحاب الحق وغربتهم بين الناس في مواطن كثيرة، منها ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم حين قال: “طوبى للغرباء”، فقيل: مَنِ الغرباء يا رسول الله؟، قال: “أناس صالحون في أناسٍ سوءٍ كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم” [رواه أحمدُ، وصححه الألباني]. فوصفهم بأنهم قلة في كثرة سوء، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئاً ولم تصرف عنهم وصف السوء هذا.

وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى- واصفاً حال القلة المؤمنة حقاً: (فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جدا: سموا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة -الذين يميزونها من الأهواء والبدع- فهم الغرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين، الذين قال الله عز وجل فيهم: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله {الأنعام: 116}. فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم، كما قيل: فليس غريبا من تناءت دياره *** ولكن من تنأين عنه غريب).

فالحق لا يُعرف بالرجال وعددهم؛ وإنما يُعرف الرجال بالحق الذي معهم ومدى موافقته للشرع الحكيم ولو كانوا قِلة، فلا يستوي الخببث والطيب أبدا كما قال جل في علاه: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100].

كما أن الكثرة قد تكون فتنة للناس تصدهم عن الحق وتغشي عيونهم عن أبصار ضلال الكثرة، لذا؛ حذر الله سبحانه وتعالى عباده من اتباع الأكثرية لمجرد العدد دون النظر لما هم عليه وما موافقته للشرع، فقال سبحانه من قائل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116].

وقد قال الفضيل بن عياض رحمه الله: (الزَم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين)، فلا تغرنك الكثرة!

والسائر على طريق الحق فردٌ في ذاته، جماعة بالحق الذي معه؛ كما قال الشيخ الحويني رحمه الله: (أنت الجماعة ولو كنت وحدك)، وذكر ابن القيم في أعلام الموقعين فتنة الإمام الجليل أحمد بن حنبل وكيف كان هو الجماعة لوحده بالحق الذي يحمله فقال رحمه الله: (وقد شذّ الناس كلهم زمن أحمد بن حنبل إلا نفراً يسيراً؛ فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة).

فالزم جادة الحق ولو كنت وحيداً، أنت كثير بإيمانك وعقيدتك ومبادئ دينك الراسخة، ولا تعجبن من كثرة من يعصي الله، فإن العاقبة لمن يطيعه والغلبة لمن يتبع هداه والعاقبة للمتقين {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة : ٥٦].

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة