كون ثقافتنا وديانتنا الإسلامية تُشدد على احترام جسد الإنسان بعد موته، وتؤكد أن كسر عظام الميت ككسر عظمه حيًّا، فهذا جعلني دائمًا أتساءل: لماذا يقبل البعض التبرع بأجسادهم؟
وأنا هنا لا أتحدث عن التبرع بالأعضاء لإنقاذ حياة، فهذا مفهومٌ، وأتفهم أيضًا ـ على مضض ـ التبرع بالأجساد لطلبة الطب والطب الشرعي.
لكنني لا أستوعب، كيف يمكن أن يُوجد متحفٌ لعرض أجساد البشر للعامة، أجسادٌ حقيقية، تُسْلَخ، تُفكك ملامحها، يُعاد ترتيبها، وتُعرض كأننا في مسلخ أو إحدى أفلام الرعب الأجنبية؟
لماذا يرغب أحدهم أن يُعرض بهذه الهيئة؟ أهو غرور الإنسان؟ أم هو فضولٌ بلا حدود؟
وهل كل تلك الأجساد المعروضة متبرعٌ بها بإرادتها الحرة؟ أم هم من الفقراء مجهولي الهوية؟ وماذا لو تبرعت العائلة بجثةٍ لم يُرِد المتوفى أن تُعرض؟
إنه ليس فضولًا علميًا بريئًا؛ بل استباحةٌ لكرامة الإنسان باسم العلم، وتجريدٌ للميت من حقه في الاستراحة والسلام.
يظن البشر أنه يحق لهم اقتحام ما حرّمته الأزمنة، وما صانته الأخلاق.
ها هم ينقّبون في أبدان الناس كما ينقّبون في حطام السفن، يختارون ما يرونه مثيرًا أو مفيدًا للعرض، يعالجون الجثث كالقطع الأثرية، يضعونها تحت زجاجٍ بارد، يحيطونها بلوحات علمية وكتيبات، فلا يُذكر أن وراء كل جمجمة قصة إنسان، ووراء كل عظم وجع عائلة، ووراء كل ملفّ تاريخي دمعة.
ولا ننسَ طيف الاستعمار: كثيرٌ من الهياكل العظمية والجماجم التي تُعرض اليوم في متاحف القارّات الغربية انتُزِعت من قبور شعوبٍ استُولي على أرضها وذاكرتها.
العرض يتسامى على الحقيقة فيغتال الحقائق الصغيرة: الاسم، القبيلة، الصلاة الأخيرة، قصص أهلٍ كانوا يدفنون موتاهم بكرامة.
المستعمر لم يكتفِ بسرقة الأرض والموارد، بل سرق الموت أيضًا.
حتى ممات الشعوب المستضعفة لم يُترك له حق الخصوصية، ولا حق الستر، كأن الغزو أراد أن يستمر بعد انتهاء المعركة، في الذاكرة، في الجسد، في العظام ذاتها.
كل جثةٍ مجهولة الهوية، كل جسدٍ أُخرج من قبره، يصرخ في صمت: “لم أُمُت لأجل فضولكم، لم أُخلد لأجل عيون المتطفلين”.
ومع ذلك، يقف الإنسان أمامها، يكتب، يصوّر، يصنع من الموت عرضًا، كأن الحياة ليست سوى تجربة علمية أو لذة بصرية، وكأن كل حرمة ميت، كل مقام، كل دين، كل تاريخ لم يُوجد من قبل.
لكن ديننا، حين حفظ جسد الإنسان حيًّا وميتًا، لم يُرِد أن يمنح الجسد قداسةً بذاته، بل أراد أن يعلّمنا أن الإنسان مُكرَّم في حياته، محترمٌ في موته، وأن له حرمةً لا تُنتهك.
حين يُعرض جمجمة مقاومٍ في متحف، أو يُنتهك جسده، يكون العدوّ هو الخاسر الحقيقي، لأنه ما زال يحارب العظام إذ عجز عن محاربة فكرةٍ استقرّت في قلب صاحبها.
لذا نقول إذا مثّل العدو بأجسادنا: “لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها”.
فالموت عند المؤمن انتصار، مهما عبث الأعداء بالبقايا، والأجساد قد تُهان، لكن الرسالة لا تُهان.










