عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ-: “بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء”، قيل يا رسول الله من الغرباء؟ قال: “الذين يصلحون إذا فسد الناس وفي لفظ يصلحون ما أفسد الناس من سنتي، وفي لفظ: يحيون ما أمات الناس من سنتي” أخرجه مسلم.
يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث، فضل أولئك الذين يلتزمون بالحق ويعملون به رغم قلة عددهم أو عزلتهم في أوقات الفتن والابتلاءات.
ويدل الحديث على أن الأشخاص الذين يتمسكون بدينهم ويعملون على إصلاح أنفسهم وأمتهم في زمن الفتن والشبهات يُعدّون من الغرباء. وليسوا غرباءً بمعنى يعيشون في أماكن بعيدة؛ بل هم الذين يعيشون في مجتمع تغلب عليه الفتن والمغريات والتحديات، غرباء في الدين والحق وصلاحهم وإصلاحهم، ومع ذلك يثبتون على الحق ويرفضون الانسياق وراء الباطل.
هؤلاء يتمتعون بجزاء عظيم عند الله، فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن لهم مكانة عظيمة في الجنة لما صبروا عليه من فتن وشهواتها، ولما تلقوه من بغض وأذية، وما صبروا عليه من النصح والإرشاد واقتلاع الناس من وجل الشهوة والفتن والظلال إلى هدى الله ونور الحق. وهذه من أعظم الأعمال، فهي أعمال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وفي حديث للنبي -صلَّى اللهُ عليهِ-: “القابض على دينه كالقابض على جمر”. وهو تصوير دقيق لحالة المؤمن في زمان الفتن، حيث أصبح التمسك بالقيم والمبادئ الدينية في بعض الأحيان أشبه بحمل الجمر في اليد، يؤلم ويحرق؛ لكنه ضروري للبقاء على الطريق الصحيح. فالفتن التي تتزايد حول الإنسان، سواء كانت في صورة شهوات أو مغريات دنيوية؛ تجعل من الصعب الحفاظ على الالتزام بالدين.
وفي هذا السياق، يمكننا ربط هذا المعنى بغربة آخر الزمان. ففي الحديث الشريف، قال رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ-: “بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ”، وهي دعوة للتأمل في أن زماننا هذا يشهد تزايد الفتن وكثرة المغريات التي تضعف من تمسك الناس بدينهم. كما أن الفضائل الدينية أصبحت شيئًا نادرًا في كثير من الأحيان، وأصبح التمسك بالحق في زمان الفتن قد يبدو كأنه غربة، حيث يغدو من الصعب التميز بين الصواب والخطأ، وأصبح أصحاب الحق غرباء يستحون من الصدع بالحق، وأهل الباطل على المنابر.
فالمسلم التقي هو الوحيد القادر على النجاة وسط هذه الفتن؛ لأن تقواه هي التي تمنحه القوة والصبر على مقاومة كل ما قد يفسده أو يثنيه عن طريقه المستقيم. فعندما يلتزم الفرد بالدين في زمن يعمه الضعف والإغراءات؛ يصبح بمثابة الغريب الذي يعيش وسط قوم بعيدين عن تعاليم دينه، إلا أنه يحمل في قلبه هداية ونورًا يمكنه من الصمود والثبات كالجبال أمام الأمواج المتلاطمة عليه.
سبب ذلك قلة الأعوان والأنصار وكثرة الشبهات، وكثرة طرق الضلالة والدعاة إليها، فلهذا الصابر في آخر الزمان على العلم والعمل، له أجر خمسين من الصحابة، لأنهم في أول مجيئ الإسلام وفي نشاط الإسلام وفي نشاط المسلمين، وقوة الإسلام وقوة المسلمين، وكثرة الأعوان واندحار الأعداء، أما في آخر الزمان العكس كثرة الأعداء وكثرة دعاة الضلال وقلة الأنصار وقلة المعينين على الحق وكثرة الشبه، هذا صراع بين الحق والباطل في آخر الزمان شديد، فلا بد الصبر على ما تعلمة، فيه رأى الحق وما يضاده فحمد الله على ذلك.
ابن باز -رحمه الله-
وختامًا، إن التمسك بالحق في زمانٍ يتزايد فيه الفساد والتشويش هو أمر عزيز؛ ولكن كما بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم، فطوبى للغرباء. لا يضرك قلة الذين يسيرون معك، فالمهم هو أن تظل ثابتًا على الطريق المستقيم. فالغرباء هم من يثبتون في زمن الشدة، يرفعون شعار الإيمان مهما كانت التحديات، ويسعون لإصلاح أنفسهم وأمتهم. فكن منهم، واحتسب أجرك عند الله، فهو الكريم الذي لا يضيع أجر المحسنين،
{وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وَٱصۡبروٓاْۚ إِنَّ الله مَعَ الصابرين}.
لا توحشنك غربة بين الغرباء، لأن لا تتوحش إذا كنت غريبًا بين الناس، إذا كان الناس فساقًا وكنت مطيعًا فأنت غريب، وإذا كان الناس معطلة وأنت مثبت كنت غريب، لا تتوحش من هذا لأن أمامك أنسٌ لا وحشة بعده لأنه إذا أنست مع الناس في مخالفة الشرع، فهذا أنس بعده وحشةٌ طويلة، الوحشة الآن بين الغرباء تزول، وما هي إلا ساعة فاصبر قليلًا لما هي ساعة ثم تنقضي لأن الشأن كل الشأن في الأنس بعد هذه الوحشة.
ابن عثيمين -رحمه الله-