أذكر أنّني أُصبت بصداع شديد ذلك اليوم؛ من كثرة ما غاص فكري، واستنفذ طاقته فيما صرت إليه من حال. أتفقّد قلبي فلا أجد فيه إلّا ضيقاً وجفوة فيما بينه وبين الله.
لقد طال أمد غفلتي حتى وصلت إلى طريق مسدود لا يمكن مواصلة المسير فيه؛ فالتعب عنوانُه، وضنك العيش حقيقتُه ومآلُه.
هل أستسلم لهذا الحال؟ أم أستمع لتلك الوساوس التي تبث فيّ الخور، وتحاول إقناعي أنني لا أصلح للمسير في طريق الحق؛ لأنني خائنة لعهودي مع الله، فلا أثبت على طاعة أبداً؟
وأنا بين هذه الخواطر والأفكار المرهقة؛ إذ بنداء آتٍ من بعيد داخل أعماقي، أن لا بد ولا مفر من مواصلة الطريق، مهما كان الثمن وزادت التكاليف.
فرأيت أن أزيد من نوافل الصلاة والصيام وأوراد الذكر، وأحاول الالتزام بها. فبقدر ذلك سيكون القرب.
هذا ما بدا لي في بادئ الأمر، لكن سرعان ما غيرت رأيي حين ذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله قال: وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه”.
فمن فقه الأولويات أن يكون تجديد المسير مبدؤه الفرائض، وإصلاح ما فسد من طريقة التعامل معها؛ باستحضار القلب والتركيز المولّد للفهم عن الله، والخشوع في حضرته، حتى اذا استقام ذلك تأتي النوافل ثانياً.
أذكر يومها أنّني عزمت فقمت لتنفيذ عزمي عند أول صلاة مفروضة، ومن عادتي سرعة التنفيذ واستعجال العمل عند وضوح الفكرة. فكان أن اختليت بنفسي في مكان هادئ بعيد عن كل منغصات الحياة وضوضائها، ويممت نحو القبلة بعدما جمعت قلبي وروحي ووجداني على تصور واحد: إنها صلاة مودع.
الله أكبر، تكبيرة الإحرام لم تكن هذه المرة كسابقاتها. وكأنها خرجت من ذلك المكان السحيق في داخلي؛ فكان لها وقع عجيب يملأ الروح هيبة لهذا الملك العظيم، الذي وقفت على بابه. ثم بدأت أقرأ فاتحة الكتاب وما أدراك ما فاتحة الكتاب. فكان حواراً تلفه الرهبة والوقار بين العبد الذليل، وربه العظيم الواحد الأحد.
وكأنني سمعت حديث ربي في كل مرة أردد فيها الآيات: حمدني عبدي، أثنى عليّ عبدي، مجّدني عبدي، هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
لم أتمالك نفسي أمام هيبة الموقف؛ ففاضت عيناي وانهمرت منها الدموع، وأحسست بحرارة تسري في جسدي، وتستقر في أطرافي. أمّا الآيات؛ فكان وقعها عجباً؛ فقد أحسست بثقلها في ركبتاي حتى كأني أحمل أثقالاً.
ثم تتوالى الركعات والسجدات وقد غاب عني كل شيء سوى ربي، وخرجت من الصّلاة وأنا شخص آخر قد تطهر من كل ذنوبه؛ فارتفعت به روحه نحو أفق بعيد؛ يتنعم بفيوض لا يمكن وصف لذاتها، ولذة القرب لا يعرفها إلا من ذاقها.
تأملت حالي قبل الصّلاة وبعدها؛ فاستثيرت الدّهشات في داخلي. صلاة واحدة فعلت فيّ كل هذا، فكيف بصلوات؟ وبضع آيات غسلتني من غفلتي، فكيف بالقرآن كله؟
عجباً لهذا العبد الضعيف، كيف يمشي في حياته تائهاً يجر أثقاله التي أنهكته باحثاً عن سعادته، فلا يهتدي إليها سبيلاً؟ عجباً له وسعادته هنا غير بعيدة عنه، تنتظر انتباهه ولفتة منه.
ما بال العبد الضعيف جمع قلبه وعقله في كل شيء إلا في صلاته وذكره وعبادته؟ فهو المشتت الحاضر الغائب، يقرأ بلسانه ما لا يفقهه بقلبه، ويسهو عن فعل جوارحه، ويستعجل في صلاته ليرتاح منها لا ليرتاح بها.
لقد أدركت يومها أن أعظم مفتاح لنيل بركات العبادات هو أن يجمع المرء قلبه وروحه، فيركز فيها بشكل كامل ولا يلتفت لغيرها أبداً.
يقول صاحب الفوائد عن هذا المعنى: (فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل وهو القلب الحي، ووجه الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر؛ حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر).
واأسفا على حالنا اليوم، كيف عصفت بنا المشتتات حتى لا تكاد تستقر أرواحنا عند شيء.
مدنية بغيضة سلبتنا أعظم مفتاح لننهل من بركات عباداتنا، ونرتقي في درجات السالكين.
فهلّا هجرنا المشتتات، وثرنا على كل موانع السّبق في طريق السائرين إلى الله؟
ألا قف ببابي عند قرع النّوائـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب
وثق بي تجدني خير خلّ وصاحـــــــــــــــــــــــــــــــــب
ولا تلتفت غيري فتصبح نادمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ومن يلتفت غيري يعش عيش خائــــــب
لقد أدركت يومها أن أعظم مفتاح لنيل بركات العبادات هو أن يجمع المرء قلبه وروحه، فيركز فيها بشكل كامل ولا يلتفت لغيرها أبداً.