قال تعالى : ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ [الحجرات:١٧]،
تأملت في اللآية فرأيت فيها معنى عجيبًا:
وهو أنهم لما وهبت لهم العقول، فتدبروا بها عيب الأصنام، وعلموا أنها لا تصلح للعبادة، فوجهوا العبادة إلى من فطر الأشياء: كانت هذه المعرفة ثمرة العقل الموهوب لهم، الذي به باينوا البهائم، فإذا أمنوا بفعلهم الذي ندب إليه العقل الموهوب، فقد جهلوا قدر الموهوب، وغفلوا عمن وهب.
وأي شيء لهم في الثمرة والشجرة ليست ملكًا لهم؟!
فعلى هذا، كل متعبد ومجتهد في علم وعمل إنما رأي بنور اليقظة وقوة الفهم والعقل صوابًا، فوقع على الملطوب، فينبغي أن يوجه الشكر إلى من بعث له في ظلام الطبع القبس.
ومن هذا الفن حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار، فانحطت عليهم صخرة، فسدت باب الغار، فقالو: تعالوا نتوسل بصالح أعمالنا! فقال كل منهم فعلت كذا وكذا.
وهؤلاء: إن كانوا لاحظوا نعمة الواهب للعصمة عن الخطأ، فتوسلوا بإنعامه عليهم الذي أوجب تخصيصهم بتلك النعمة عن أبناء جنسهم، فبه توسلوا إليه.
وإن كانوا لاحظوا أفعالهم، فلمحوا جزاءها، ظَنًّا منهم أنهم هم الذين فعلوا، فهم أهل غيبة لا حضور، ويكون جواب مسألتهم لقطع مننهم الدائمة.
ومثل هذه رؤية المتقي تقواه، حتى إنه يرى أنه أفضل من كثير من الخلق، وربما احتقر أهل المعاصي، وشمخ عليهم! وهذه غفلة عن طريق السلوك، وربما أخرجت.
ولا أقول لك: خالط الفساق احتقارًا لنفسك! بل اغضب عليهم في الباطن، وأعرض عنهم في الظاهر، ثم تلمح جريان الأقدار عليهم! فأكثرهم لا يعرف من عصى! وجمهورهم لا يقصد العصيان، بل يريد موافقة هواه، وعزيز عليه أن يعصى! وفيهم من غلب عليه تلمح العفو والحلم، فاحتقر ما يأتي، لقوة يقينه بالعفو!
وهذه كلها ليست بأعذار لهم، ولكن، تلمحه أنت يا صاحب التقوى! واعلم أن الحجة عليك أوفى من الحجة عليهم؛ لأنك تعرف من تعصي، وتعلم ما تأتي، بل انظر إلى تقليب القلوب بين إصبعين، فربما دارت الدائرة، فصرت المنقطع، ووصل المقطوع.
فالعجب ممن يدل بخير عمله، وينسى من أنعم ووفق.