قد عرف النبي -صلى الله عليه وسلم- الغيبة بقوله: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته». رواه مسلم
ومعنى بهته أي قلت فيه البهتان والكذب.
والسخرية تعتبر من جملة الغيبة المحرمة، ومن ذلك قول عائشة -رضي الله عنها- : دخلت علينا امرأة فلما ولت أومأت بيدي أنها قصيرة، فقال عليه السلام: اغتبتها.
وقال الحافظ في الفتح: وقد اختلف في حد الغيبة وفي حكمها، فأما حدها فقال الراغب: هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك،
وقال ابن الأثير في النهاية: الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه، وقال النووي في الأذكار: ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو وطلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز،
قال النووي: وممن يستعمل التعريض في ذلك كثير من الفقهاء في التصانيف وغيرها كقولهم: قال بعض من يدعي العلم أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو نحو ذلك مما يفهم السامع المراد به، ومنه قولهم عند ذكره: الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة، ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة.
والغيبة محرمة بالكتاب والسنة والإجماع، وعدها كثير من العلماء من الكبائر، وقد شبه الله تعالى المغتاب بآكل لحم أخيه ميتا فقال:
{أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه}. [الحجرات: 12].
ولا يخفى أن هذا المثال يكفي مجرد تصوره في الدلالة على حجم الكارثة التي يقع فيها المغتاب، ولذا كان عقابه في الآخرة من جنس ذنبه في الدنيا، فقد مر النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة عرج به بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قال: فقلت: “من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم”
فإن وقع العبد في هذا الذنب فليرجع إلى الله سبحانه وليتب إليه، وليبدأ فليتحلل ممن اغتابه،
ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “من كانت له عند أخيه مظلمة من عرضه أو شيء فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه” متفق عليه من حديث أبي هريرة،
فإن خشي إن تحلله أن تثور ثائرته ولم يتحصل مقصود الشارع من التحلل، وهو الصلح والألفة، فليدع له، وليذكره بما فيه من الخير في مجالسه التي اغتابه فيها.
وإن من اغتيب شخص بحضرته فلا يجوز له استماع الغيبة وإقرارها والرضى بها، فمن فعل ذلك يعتبر مغتابا، وإنما يسلم من ذلك بالقيام بما يجب عليه من الإنكار على المغتاب حسب الاستطاعة وعدم الرضى بفعله وعدم مواصلة المجالسة له،
كما قال النووي في رياض الصالحين مبوبا على ذلك: باب تحريم سماع الغيبة وأمر من سمع غيبة محرمة بردها والإنكار على قائلها، فإن عجز أو لم يقبل منه فارق ذلك المجلس إن أمكنه.
ثم ذكر -رحمه الله- عدة أدلة في الموضوع منها حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن…
فيتعين على من حضر مجلس فيه غيبة أن ينصح وينهى عن المنكر حسب استطاعته، وليكن ذلك برفق وحكمة، فإن لم يُستجاب له فليحاول دائما صرف الحديث بأي أحاديث أو نقاشات، فإن أنكر برئ من الإثم ولا يأخذ المغتاب شيئا من حسناته, وكذلك إذا أنكر بقلبه, ولم يرض باغتياب الناس وبادر بمفارقة المجلس الذي تقع فيه الغيبة.
وهذا عام في المناكر كلها, فلا إثم على من حضرها إذا كان منكِرا بقلبه ولم يقصر فيما يستطيعه من الإنكار بغيره, وبادر بمفارقة المحل حيث لم يتم التوقف عن المنكر.
ففي الحديث أنه: (يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع) رواه مسلم.
فهذا الحديث يفيد أن من كره المنكر فقد برئ من إثمه وعقوقه، وأنه لا يأثم إلا بالرضى بما حصل من المعاصي، كذلك قال النووي في شرح مسلم.