عدل الله ووعده الحق

خرج أهل الشام ينادون بالحرية وإسقاط الحكم الطائفي الكافر؛ فقوبلوا بالقتل والاعتقال والموت والقصف والحصار، ثم هجروا من ديارهم بغير حق.

﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ﴾.

جُمعوا في بقعة صغيرة! ما هي تهمتهم وما هو ذنبهم؟ قاموا في وجه الظلم والطغيان، قالوا لا  في وجه فرعون هذا العصر وزمرته الطاغية المستبدة.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

فما كان من هؤلاء القوم المؤمنين عندما أخرجوا من ديارهم إلا أن أعلنوها هجرة إلى الله ورسوله، أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخرج من مكة خوفاً من بطش القوم الكافرين فكان ما كان؛ فهم خرجوا وقلوبهم في ديارهم سكنت، تهب عليهم نسائمها وتعيد لهم الذكريات، وظنهم ودعواتهم فيما بينهم “بإذن الله نعود لديارنا فاتحين مكبرين”؛ فهم يرنون عودة كعودة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحاً مكبراً مهللاً.

استشهد كثير منهم في سبيل الله ودفاعاً عن الدين والأرض والعرض، أو تحت القصف أو في السجون تحت التعذيب، وعزاؤنا فيمن قتلوا قول الله تبارك وتعالى:

﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

قصفوا بكل أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة والمحرمة والكيماوية، ومجزرة الغوطة الشرقية شاهدة على إجرام لن يمحى من صفحات التاريخ. وما ذنب هؤلاء الذين قتلوا؟ ذنبهم أنهم قالوا ربنا الله!

حوصروا وأمضوا أياماً وليالي دون أن يدخل جوفهم شيئاً، حتى أكلوا العشب وأوراق الشجر. يؤنسهم فيما حدث لهم أن خير الخلق صلوات الله وسلامه عليه حوصر بالشعب وحزن، وفقد أحب الناس إليه وكان عام الحزن؛ فقد فقد زوجه الحنون وعمه الذي كان يدافع عنه، وقد جائع بأبي وأمي هو؛ فمن هم ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فصبروا وأسلموا أمرهم لربهم، توكلوا عليه، ودعاؤهم أن يعوضهم الله عن هذه الدنيا وعن هذه الأيام بخير أيام يرضاها، وقد استجاب الله لهم.

أسر منهم وعذب في السجون حتى الموت، ومنهم من فقد عقله أو تسبب له التعذيب بشلل كامل أو نصفي أو إعاقة دائمة، وكل ذلك فداء لدين الله وفي سبيله. يقولون: من ربك، يقول: ربي الله لا إله إلا الله، فيقولون بكل تجبر: بل قل بشار قل لا إله إلا بشار! وحاشا لله وحاشا وكلا، تعالى الله عما يقولون، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا الله مخلصين له الدين. 

مشاهد لا تغيب عن عقول أهل الشام؛ فهي محفورة في أعماق وجدانهم تئن وتئن، ولن تسكن حتى يؤخذ بثأرها، ولن تشفى حتى تُسال دماء الثأر في ربوع الشام وتطهر من دنس ورجس النصيرية وزبانيتهم.

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.

هذه الآية تصف حال أهل الشام. الآم ومآسي، خوف وجوع، حصار وقتل، ابتلاءات قد ذاقوها وألفوها. يواسي بعضهم بعضاً، يصبرهم كلام ربهم وتواسيهم أحاديث رسوله صلوات الله وسلامه عليه بما لهم في الجنة نعيم مقيم، وأنهم إن صبروا فلهم عز وتمكين؛ فتتوق قلوبهم إلى ما بعد الابتلاء من جزاء ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾؛ فبعد كل مصيبة يكون حالهم التسليم للرب تبارك وتعالى، تتمتم شفاههم وتردد ألسنتهم ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، فهم واثقون أن بعد الصبر والرضى تأتي الأعطيات، وبعد الثبات يكون التمكين.

﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾. يقول ابن كثير: (أي: يستفتحون على أعدائهم، ويدعون بقرب الفرج والمخرج، عند ضيق الحال والشدة. قال الله تعالى: {ألا إن نصر الله قريب}).

﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾. اشتد البلاء وعظم الكرب وضاقت عليهم الأرض وضاقت النفوس واعتلاها الهم والغم، وفي هذه الغمرات ﴿أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ﴾؛ فما بعد الضيق إلا فسحة الفرج.

تمر السنون تلو السنون، ثلاثة عشر عاماً من سفك الدماء والتهجير والظلم والقصف والقتل والتشريد، ويأذن الله لفجر النصر أن يبزع ولليل الظلم أن ينجلي.

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾.

تجبر القوم وعتوا، قتلوا وسفكوا الدماء، تجبروا على عباد الله ظلماً بغير حق، فحقق الله وعده لعباده ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾؛ فقد أذن الله أن تعود الديار لأهلها، ويهلك الله الظالمين ويخرجهم منها أذلة صاغرين مشردين بين قتيل وأسير. بين ليلة وضحاها، يأتي نصر الله بعدما كان القنوط يغلب على النفوس فالحرب على الأبواب أين المفر و أين السبيل.

يخبئ الله لعباده من الخير ما لا يلقون له بالاً، أمرٌ بعيد عن تفكيرهم ولا تتخيله عقولهم ولا تدركه أفهامهم. 

قد أيسوا من النصر ومن وقوعه، وحال بينهم وبين قربه أسباب دنيوية وقرارات عالمية. ينظرون إلى المعطيات التي حولهم والتصريحات التي تتلقاها أسماعهم من أمم الكفر والضلال؛ فيعشعش الهم في قلوبهم، وتركن نفوسهم لما سمعوا، وتصدق ما قالوا. ثم ماذا؟ ثم في غمضة عين ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾.

أتى نصر الله، وعندها ستخرس الألسن عن الطعن والتخوين، وستقف أمم الكفر عن الدعم والإمداد، وستندثر التصريحات وسترفع العقوبات وسيقف العالم أجمع لأمر الله تبارك وتعالى؛ فأمر الله إذا جاء تُهيؤ له الأسباب، وتتوقف لأجله كل الخيارات، وتعطل لأجله كل المعطيات؛ فلا مكان هنا إلا لأمر الله؛ فالأمر نزل من فوق سبع سماوات ﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾. 

لا يمكن لعقل بشري قاصر أن يتخيل أن النصر هكذا،  فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وقد جاء نصر الله المعز في وقت كانت النفوس تشتاق إليه، وكان يأسها يغلب على تفاؤلها، وأتى وعد ربك حقاً؛ فنصر جنده بالرعب، يفرون أمام جحافل جند الله فرار النعاج من الذئاب، وهذه سنة نبوية؛ فقد نصر الله تبارك وتعالى الرسول صلى الله عليه وسلم بالرعب؛ فقال صلى الله عليه وسلم: “نصرت بالرعب مسيرة شهر”؛ فكان نصراً بهيجاً وفتحاً مهيباً، فتح الله به البلاد وقلوب العباد، فألف بين عباده وذهبت الشحناء والبغضاء وصاروا على قلب رجل واحد يقاتلون عدو الله وعدوهم.

﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة