“يا أبا بَكرٍ إنَّ لِكلِّ قومٍ عيدًا وَهذا عيدُنا”، بهذه الكلمات النبوية الشريفة، والتي تفيضُ حكمةً وعمقًا، أرسى رسولنا الكريم ﷺ مفهومًا فريدًا لأعيادنا في الإسلام، مؤكدًا خصوصيتها وهويتها التي تميزها كبصمةٍ خالدة على جبين الأمة الإسلامية. وها هو عيد الأضحى الأغرُّ، ثاني أعياد المسلمين الكبرى، يُقبلُ علينا.
إن عيد الأضحى المبارك ليس مجرد مناسبة للفرح والبهجة فحسب؛ بل معلمًا لنفائس الدروس في التضحية والإيثار، في الشكر العميق لنعم الباري، وفي التكافل الاجتماعيِّ الذي ينسجُ أروع صور المودة والرحمة، ليغمر قلوب المؤمنين بالسرورِ الهادئ والسكينةِ المطمئنة.
وهذا اليوم المبارك يُعرفُ بـ “عيدِ النحر”، ويأتي عقب يوم عرفة الجليل، اليومِ الذي يقفُ فيه الحجاج على صعيدِ عرفات، مُلبِّين نداءَ الخالق سُبحانه، ومؤدين الركن الأعظم من أركان الحجِّ.
وتكمُن أهمية هذا العيد بارتباطها ارتباطًا وثيقًا بقصة نبيِّ الله إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام-، قصةٌ خالدةٌ ما فتئتْ تُجسّدُ أروع معاني الطاعة والتسليم المُطلق لإرادة الخالق في أبهى صورها. فكم كان قلب الأب يتفطّرُ خشيةً وهو يُقدمُ على تنفيذ أمر ربِّه بذبحِ فلذة كبده، وكم كانت روح الابن مُستسلمةً راضيةً بقضاءِ الله وقدره! ثم تجلّت رحمة الله الواسعة، ففداهُ بكبشٍ عظيم، حيثُ قال ﷻ في سورةِ الصافات: ﴿وَفَدَيناهُ بِذِبحٍ عَظيمٍ﴾، لتبقى هذه الذكرى شاهدًا حيًّا على أن الإيمان الحقَّ يكمنُ في التسليمِ المطلق لله، وأن التضحية هي النبراس الذي يُنيرُ درب العبد نحو خالقه.
وفي هذا اليوم الأجَلّ، يتقدمُ المسلمون القادرون بأضاحيهم من الأنعام، قُربانًا إلى الله تعالى، مُقتدين بسُنةِ أبي الأنبياءِ إبراهيم -عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام-. وتتوزع هذه الأضاحيُّ بسخاء المؤمن على الفقراء والمحتاجين، وعلى الأقارب والجيران، فتتآلفُ القلوب وتتعانقُ الأرواح في مشهدٍ بهيج، وتغمرُ الفرحة الجميع، فلا تقتصرُ على الأغنياء وحدهم؛ بل تشملُ بركتها كلَّ بيتٍ وكلَّ نفسٍ مُسلمة.
والحديث عن عيد الأضحى، لا يطيبُ إلا بالوقوفِ على تلك البهجة العارمة التي تُشرقُ في وجوهِ المسلمين بقدومِه، كإشراقةِ الشمس بعد ليلٍ طويلٍ من الانتظار. فبعدَ أيام العشر الأوائل من ذي الحجة، الأيام المباركة التي يكثرُ فيها العبادات، يأتي العيد كتتويجٍ لهذهِ العبادات الخالصة، حاملًا معهُ نسائم الفرح والسرور التي تُنعشُ الأرواح وتُبهجُ النفوس.
فتتجلى هذهِ البهجة في صورٍ تُلامسُ الوجدان؛ في صلاةِ العيد التي تجمعُ الجموع المؤمنة في المساجد والمصليات في مشهدٍ مهيب، ترتفع فيه التكبيرات والتهليلات إلى عنان السماء، مُؤكدةً وحدة الصفِّ وتآلف القلوب؛ وفي صلةِ الأرحام وتبادلِ الزيارات، حيثُ تتلاقى الأيدي بالمصافحةِ الدافئة، وتُتبادل التهاني الصادقة، وتُنسى الضغائن والأحقاد، وتتطهرُ النفوس من أدرانها، مُعيدةً للروابط الأسرية والاجتماعية قوتها ومتانتها؛ وفي إدخال السرور على وجوهِ الأطفال البريئة، بتوزيعِ العيديات من الحلوى والهدايا المُبهجة، وشراء الملابس الجديدة الزاهية لهم، فتُغرسُ في نفوسِهم الصغيرة بذور الحبِّ لهذا الدين العظيم وأعيادِه المباركة؛ وفي إقامةِ الولائم والاحتفالات، حيثُ تجتمعُ العائلات على موائدِ الطعام العامرة، في جوٍّ من المودة والألفة، تتشاركُ اللحظات السعيدة والذكريات التي لن تُنسى.
إن عيد الأضحى ليس مجرد مناسبةٍ للاحتفال واللهو العابر؛ بل هو فرصةٌ ثمينةٌ لتجديدِ الإيمان في القلوب، وإحياء القيم الإنسانية النبيلة كالجودِ والكرمِ والعطاء. هو تذكيرٌ عميق بأن الحياة الدنيا ما هي إلا دارُ اختبارٍ وفناء، وأن التضحيةَ في سبيلِ الله هي الربح الحقيقيُّ الذي يدومُ ويبقى أثرهُ بعد فناءِ الأجساد.
هذا العيد رسالة تتجاوزُ مظاهر الفرح الظاهرة؛ إنها دعوةٌ صادقةٌ إلى العطاءِ اللا محدود، والتضحية بالغالي والنفيسِ في سبيلِ مرضاة الله، وتذكُّر الفقراء والمساكين، ومدِّ يدِ العون للمحتاجين بكل حبٍّ ورحمة. فهو يغرسُ فينا الشعور العميق بالامتنانِ لنعم الله التي لا تُحصى ولا تُعدُّ، ويدفعُنا لتقديم الشكر العمليِّ من خلال العباداتِ الخالصة والمعاملات الحسنة التي تُزهرُ في دروب الحياة.
ففي هذا العيد المبارك، تتجلّى عظمة الإسلام في جمعهِ البديع بين العبادةِ والمعاملة، بين الفرح والتراحم، ليكون عيدًا حقيقيًّا يُبهجُ الأرواح، ويُطهرُ القلوب، ويُقوي أواصرَ الأخوةِ بين المسلمين في كلِّ مكانٍ وزمان.