وعِزُّهُ؛ الاستغناء عن الناس

الاستغناء معنى جليل، وخلق رفيع، لا بد له من مجاهدة حتى يدركه الإنسان، خاصة في زمن الشهوات الذي نحياه هذا، واستفحالها واستحكامها.

الاستغناء مشتق من الغنى، وكما ردد المعلمون على مسامعنا صغاراً: (استـ) من الحروف المزيدة التي تدخل على الفعل ومصدره لتدل على الطلب؛ فيكون المعنى الحرفي: طلب الغنى عن الناس، بينما دلالة اللفظ: السعي والحرص على الغنى عن الناس. فالاستغناء بالشيء: الاكتفاء به، بينما الاستغناء عنه: الغنى بدونه وعدم الحاجة إليه.

ولن يتأتى ذلك المراد لإنسان؛ إلا إن اعتاد وصدق التعلق بالله عز وجل والتوكل عليه والاكتفاء والاستغناء به عن جميع خلقه. فلا يرى إلا الله العزيز الغني الصمد قاضياً لحاجته مهما كانت؛ كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه: “إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله”. ولن يكون ذلك الحال؛ إلا لمن عرف ربه حق المعرفة، وتعلق به وحده، وعلم كيف يطرق أبواب السماء بدعائه إلى أن يُفتح له مُنزِلاً حاجته بالكريم المعطي المنعم الوهاب سبحانه وبحمده.

ويرد في هذا المعنى هذه القصة الجميلة التي تبث معنى الاستغناء بأفضل ما يكون، ويمكنك أن تتذوق العز الناتج عنه بين كلماتها:

التقى أحد الأمراء مع أحد العلماء في بيت الله الحرام، فأراد هذا الأمير أن يتقرب إلى هذا العالم فقال له: هل لك من حاجة نقضيها لك؟ قال: والله! إني لأستحي أن أسألك وأنا في بيته، فتحين هذا الأمير خروج هذا العالم من بيت الله الحرام، فلما التقاه في الخارج قال: والآن ألك حاجة نقضيها؟ فقال العالم: أمن حوائج الدنيا هي أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، قال: ما سألت الذي يملكها أأسألك أنت؟

تخيل أنه أصلاً لا يستغني عن الأمير وسؤاله فقط؛ ولكنه يستغني عن الدنيا بأسرها! قد تظن أن هذه مبالغة، وأن الأمر أيسر من ذلك، ولا يستحق كل هذا العنت في ظنك؛ لكن أظن أن هذا الرأي سيتبدل حين تتأمل هذا الحديث الشريف:

روى مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: “ألا تبايعون رسول الله”، وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: (قد بايعناك يا رسول الله)، ثم قال: “ألا تبايعون رسول الله”، فقلنا: (قد بايعناك يا رسول الله)، ثم قال: “ألا تبايعون رسول الله”، قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: (قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟) قال: “على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا، وأسر كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئاً، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه” انتهى.

تخيل أن يسقط السوط من يد أحدهم وهو راكب على دابته؛ فيوقفها وينزل ليلتقطه، ولا يطلب من أحد أن يناوله إياه! وقد صح عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة”، فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحداً شيئاً. رواه أبو داود والحاكم، وصححه الحاكم والنووي والمنذري.

هذا هو الاستغناء الذي يحقق العز، ذاك الذي يقطع رجاء العبد في الدنيا وما حوت، فيتعلق مباشرة بالله عز وجل خالقها والمهيمن عليها. فالدنيا تزاحم الآخرة في قلب العبد، وكلما انكمشت إحداهما في القلب؛ انتفشت الأخرى حتى تشغل الحيز كاملاً، حتى تسيطر إحداهما على القلب فتطرد الأخرى، ولن تسيطر الآخرة بالفعل؛ إلا إذا استوحش الإنسان من الدنيا وما فيها، فلا يجد أنسه وأنيسه إلا بالله عز وجل.

ولكن هل يعني هذا الحديث ألا أتعامل مع الناس أبدا؟ بالطبع لا، وإنما يعني قطع الرجاء الذي قد يورث تعلقاً فذلاً، الذي قد يشغل قلب العبد عن مولاه، ويرفع العبيد فوق مكانتهم، أو يسبب خيبة وخذلانا فقعوداً عن السير إلى الله، فالتعامل مع الناس بالعموم لا بد أن يجر الكثير من الأذى، ولعل أعجب ما جاء في هذا المعنى، هذا الأثر عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله جاء فيه:

أن أبا جعفر الهروي قال: (كنت مع حاتم الأصم، وقد أراد الحج، فلما وصل بغداد قال لي: يا أبا جعفر: أحب أن ألقى أحمد بن حنبل. فسألنا عن منزله، ومضينا إليه، فطرقت على أحمد الباب، فلما خرج، قلت: يا أبا عبد الله، أخوك حاتم. قال: فسلم عليه، ورحب به، وقال له بعد بشاشته: فيم التخلص من الناس يا حاتم؟ قال: يا أحمد في ثلاث خصال! قال: وما هنَّ؟ قال: بأن تعطيهم مالك، ولا تأخذ من مالهم شيئا، وتقضي حقوقهم، ولا تستقضي أحدا منهم حقا لك، وتحمَل مكروههم، ولا تُكرهَ أحدا منهم على شيء. قال: فأطرق أحمد، فنكت بأصبعه الأرض، ثم رفع رأسه إليه، ثم قال: يا حاتم: إنها لشديدة، إنها لشديدة! فقال حاتم: وليتك تسلم!، وليتك تسلم!، وليتك تسلم!).

لكن إليك البشرى على لسان نبيك صلى الله عليه وسلم: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (سرَّحَتْني أُمِّي إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأتَيتُه فقعَدْتُ فاستَقْبَلَني، وقال: “مَنِ اسْتَغْنى أغْناهُ اللهُ، ومَنِ استَعَفَّ أعَفَّه اللهُ، ومَنِ استَكَفَّ كَفاهُ اللهُ، ومَن سألَ وله قيمةُ أُوقيَّةٍ فقد ألْحَفَ”، فقُلتُ: ناقَتي الياقوتةُ خَيرٌ من أُوقيَّةٍ، فرَجَعتُ ولم أسألْه).

يقول أبو سعيد رضي الله عنه أن أمه أرسلته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليطلب منه المال لحاجة ألمت بهم؛ فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم بذاك الحديث الجليل، حتى وصل إلى قول ومن سأل وله قيمة أوقيه فقد ألحف: يعني ألح في السؤال بشدة. فتذكر أبو سعيد رضي الله عنه ناقته التي كانت تسمى الياقوتة وأنها تقدر بأكثر من أوقية، فرجع ولم يطلب المال.

والبشرى هنا أنَّ مَنِ اسْتَغْنى أغْناهُ اللهُ، ومَنِ استَعَفَّ أعَفَّه اللهُ، ومَنِ استَكَفَّ كَفاهُ اللهُ.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة